الثورة:
حمل ظهور الرئيس أحمد الشرع في جلسة حوارية بمعهد الشرق الأوسط في نيويورك، بحضور خبراء وصناع قرار أميركيين، دلالات تتجاوز الخطاب المعتاد، فالتصريحات التي ألقاها لم تكن مجرد استعراض للسياسات الداخلية بل محاولة لإعادة رسم صورة سوريا الجديدة بعد التحرير بوصفها دولة تسعى إلى الاستقرار والشراكة بدلاً من المواجهة والعزلة.
افتتح الشرع حديثه بالتأكيد على أن زيارته الحالية إلى نيويورك تمثل عنواناً لـ«عودة سوريا إلى المجتمع الدولي»، واختيار معهد الشرق الأوسط – وهو من أعرق مراكز الفكر في واشنطن – منح هذه الرسالة بعداً استراتيجياً، إذ قدّم دمشق في فضاء أميركي مؤثر، وأمام جمهور يتابع عن كثب التحولات في الملف السوري. وحملت تصريحات الشرع بأن «نجاح أي اتفاق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي سيمهّد لاتفاقات أخرى تسهم في تعميم السلام في المنطقة» رسالة مزدوجة: إلى الداخل السوري بأن القيادة الحالية تتبنى نهجاً عملياً في التعامل مع الملفات المعقدة، وإلى الخارج بأن دمشق مستعدة للدخول في مسار تفاوضي قد يشكّل حجر زاوية في استقرار الشرق الأوسط، شريطة التزام إسرائيل بالعودة إلى خطوط ما قبل 8 ديسمبر 2024.
وجاء تشديد الرئيس الشرع على أن أي حديث عن تقسيم سوريا يضر بها وباستقرار دول الجوار، خاصة تركيا والعراق، جاء كإشارة تطمين إلى هذه الدول بأن دمشق لا تسعى إلى تغيير خرائط أو فرض وقائع جديدة، بل إلى الحفاظ على وحدة أراضيها وضبط حدودها بما يخدم أمن المنطقة بأسرها. كما أن إعلانه عن عودة مليون لاجئ وانخفاض تصدير الكبتاغون بنسبة 90% قدّم للمجتمع الدولي مؤشرات ملموسة على أن الحكومة الجديدة ليست مجرد خطاب بل تعمل على معالجة القضايا الأكثر حساسية: من ملف اللاجئين إلى مكافحة المخدرات، وهذه الأرقام جاءت لتدعم دعوته إلى إعطاء سوريا فرصة جديدة للحياة والانفتاح عليها اقتصادياً وسياسياً. ويعكس تطرّقه إلى أحداث السويداء بوصفها «أخطاء من جميع الأطراف»وإعلانه عن «مساعٍ جديدة للمصالحة وتأليف القلوب»خطاباً تصالحيّاً داخلياً، يدعو إلى تجاوز عقلية الانتقام والتصفية، ويضع أسساً لعدالة انتقالية تفتح الباب أمام إعادة اللحمة الوطنية.
ويمثل إصرار الرئيس الشرع على وصف سوريا بأنها «بلد محوري قادر على كسب جميع الأطراف»وأنها «لن تكون في أي معسكر ضد آخر»محوراً أساسياً في رسالته، فهو يطرح بلاده كدولة تسعى إلى سياسة متوازنة، قادرة على التفاهم مع واشنطن بشأن دمج قوات «قسد» في الجيش السوري، وعلى التفاوض مع إسرائيل بشأن الأمن الإقليمي، وعلى طمأنة دول الجوار بشأن وحدة الأراضي السورية.
اللافت أن خطاب الرئيس الشرع في معهد الشرق الأوسط أعاد تعريف «سوريا ما بعد الأسد» في عيون صناع القرار الأميركيين: دولة تحاول الانتقال من خطاب الحرب إلى خطاب البناء، تقدم إنجازات ملموسة في الداخل ورسائل انفتاح إلى الخارج، وتطرح نفسها كشريك في استقرار المنطقة لا كمصدر اضطراب لها، وهذه الرسائل – إذا قُرنت بإصلاحات عملية على الأرض – يمكن أن تفتح لسوريا نافذة جديدة على المجتمع الدولي وتعيد تموضعها كلاعب فاعل في الشرق الأوسط.