الثورة – تحقيق جهاد اصطيف:
لم يعد مشهد الألعاب النارية والمفرقعات يقتصر على أجواء الأعياد والاحتفالات كما كان في الماضي، بل تحول إلى ظاهرة يومية متفاقمة في شوارع وأحياء مدينة حلب، فالأصوات المدوية التي تنبعث من هنا وهناك، لا تثير الضجيج فحسب، بل تحمل في طياتها خطراً حقيقياً على حياة الأطفال والبالغين على حد سواء، ومع انتشار المفرقعات ومسدسات الخرز بكثرة بين أيدي الصغار، يزداد المشهد قتامة، إذ تحولت هذه الألعاب إلى أدوات مؤذية قد تفقد أحدهم عينه أو تسبب له إصابات جسدية خطيرة.
الأمر لم يعد يطاق
على الرغم من الحظر القانوني الصريح المفروض على هذه التجارة، ورغم حملات الأجهزة الأمنية المتكررة لمكافحة دخولها وبيعها، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذه المواد تجد طريقها بسهولة إلى الأسواق، ومن ثم إلى أيادي الأطفال، لتصبح “قنابل موقوتة” تهدد السكينة العامة في مدينة أنهكتها أصلاً سنوات الحرب والمعاناة.
في حي سيف الدولة بحلب، تبدو معاناة الأهالي واضحة للعيان، فبحسب شكواهم، لم يعد الليل يعرف الهدوء، إذ تتعالى أصوات المفرقعات بأنواعها وأشكالها الغريبة، حتى أصبحت الأجواء مشحونة بالخوف والقلق.
يقول أحد سكان الحي: أصوات هذه المفرقعات مرعبة بحق، حتى نحن الكبار نشعر بالخوف عند سماعها، فكيف الحال مع الأطفال والنساء؟.. الأمر لم يعد يطاق، والأمن قادر على ضبط هذه الظاهرة لو شدد إجراءاته قليلاً.
المشهد يتكرر في أحياء أخرى من المدينة كصلاح الدين، وبستان القصر، ومساكن هنانو، حتى في الأحياء الراقية مثل الموكامبو وغيرها، إذ لا يكاد يخلو شارع أو زقاق من أصوات الانفجارات الصغيرة التي تشبه طلقات الرصاص أحياناً.
ويؤكد الأهالي أن بعض أنواع المفرقعات التي تباع حالياً “لم يسمعوا بها من قبل”، فهي أقوى وأكثر خطورة من تلك التي كانت منتشرة سابقاً.
ذكريات مأساوية
المشكلة الأكبر، كما يروي الأهالي، أن الأطفال هم الفئة الأكثر انجذاباً لهذه الألعاب، من دون إدراك لمخاطرها.
يقول أبو محمد، وهو أب لثلاثة أطفال: كل يوم أعود إلى المنزل بخوف من أن أسمع أن أحد أولادي أصيب بعينه أو يده بسبب مسدسات الخرز أو المفرقعات، حاولت كثيراً أن أمنعهم من اللعب بها، لكنهم يجدونها بسهولة عند أصدقائهم أو في الأسواق، الأمر يحتاج إلى ضبط شامل، وليس فقط توعية.
وليس ببعيد، يروي أحد السكان حادثة مؤلمة حصلت قبل فترة وجيزة في حي الصاخور، حيث أصيب طفل في التاسعة من عمره إصابة بليغة في عينه جراء إطلاق خرزة بلاستيكية من مسدس لعب، ما استدعى نقله إلى المستشفى لإجراء عملية عاجلة، هذه الحادثة، وغيرها كثير، تجعل الأهالي يعيشون في حالة من القلق الدائم على أطفالهم.
وعلى الرغم من أن القانون السوري يمنع بشكل قطعي استيراد وبيع المفرقعات ومسدسات الخرز، إلا أن هذه التجارة لا تزال نشطة في السوق السوداء، وتدر أرباحاً كبيرة على من يمارسها.
يؤكد أحد التجار- طلب عدم ذكر اسمه، أن الطلب يزداد بشكل ملحوظ خلال فترة الأعياد والمناسبات، إذ يقبل الأهالي، رغم معرفتهم بالمخاطر، على شراء هذه الألعاب لأولادهم “لتسلية وقتهم” على حد تعبيره، لكن هذا التبرير يرفضه الكثير من الأهالي الذين يرون أن التجار “ضعاف نفوس” يلهثون وراء الربح السريع حتى لو كان على حساب حياة الأطفال وسلامة المجتمع.
دعوات لحلول جذرية
الأهالي يطالبون بتسيير دوريات يومية على الأسواق، وإجراء تفتيش دوري للمستودعات، إضافة إلى تشديد الرقابة على المنافذ الحدودية لمنع دخول هذه المواد من الأساس.
أحد الشاكين قالها بصراحة: نحن لا نطلب المستحيل، المطلوب فقط أن يتحرك الأمن بشكل جاد ومستمر، هذه المفرقعات ليست مجرد لعب أطفال، بل خطر حقيقي قد يحصد الأرواح.
المفارقة أن الكثير من العائلات تشتري هذه الألعاب لأولادها بهدف إدخال الفرح والبهجة في المناسبات السعيدة، لكن النتيجة في كثير من الأحيان تكون عكسية، فبدلاً من أن تكون مصدر تسلية، تتحول إلى أدوات مؤذية أو حتى قاتلة.
يتباهى أحد الأهالي في حديثه لصحيفة الثورة بأنه يشتري لأطفاله المفرقعات لإدخال السرور إلى قلوبهم، وهو يدرك أنه قد يكون السبب في إصابتهم أو إصابة غيرهم، متناسياً هو وغيره أن الحياة أغلى من أي لعبة.
مع تزايد الشكاوى، باتت الحاجة ملحة لاتخاذ إجراءات جذرية، لا تقتصر على حملات آنية وموسمية، بل تشمل ضبط الحدود بشكل أكبر لمنع تهريب المفرقعات، وتشديد الرقابة على المحال التجارية والمستودعات، وتفعيل العقوبات القانونية بحق المخالفين لتكون رادعة، وإطلاق حملات توعية للأهالي حول خطورة هذه الألعاب، وتوفير بدائل آمنة للأطفال من ألعاب ترفيهية وتعليمية.
القانون واضح وصارم
المحامي حسام حميدي يوضح في حديثه لصحيفة الثورة أن القانون السوري يحظر صنع أو استيراد أو اتجار أو نقل المفرقعات من مكان إلى آخر من دون ترخيص رسمي، ويمنع إطلاقها في الطرقات العامة أو المنازل أو أماكن التجمعات، مؤكداً أن العقوبات تصل إلى الحبس لمدة قد تصل حتى السنة.
ويشير إلى أن المسؤولية لا تقع على التاجر فقط، بل تمتد إلى الأهل أيضاً، إذ يتحملون تبعات قانونية إذا تسبب أطفالهم بأضرار للآخرين جراء استخدام هذه الألعاب، فالمشرّع يعتبر أن الإهمال في متابعة سلوك الأطفال قد يرقى إلى مسؤولية جزائية في بعض الحالات.
كما يشدد حميدي على أن العقوبات تشمل الحبس والغرامة لكل من يضبط بحيازته أو في مستودعاته مفرقعات أو مسدسات خرز غير مرخصة.
الجهات المعنية، وبحسب رد مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك بحلب، عبر مكتبها الإعلامي، اقتصر على أن هذه الأمور لا تزال بعيدة عن التعاطي بها، وهذا الأمر قيد الدراسة ولم يصدر قرار بعد بشأنها، أن المديرية تتابع المتاجرة “بالفتاش” وسواه، وأن مسألة الألعاب النارية لا تزال متابعة من الداخلية.
وبالفعل تنفذ بين الحين والآخر حملات لمصادرة هذه المواد من المحال التجارية، وتقوم بإتلاف كميات منها، إلا أن ذلك لا يبدو كافياً، فالمفرقعات تصل إلى أيدي الأطفال بطرق مختلفة، وأحياناً عبر تهريبها من الحدود.
البعد النفسي والاجتماعي
إلى جانب الخطر الجسدي المباشر، يحذر خبراء من أن أصوات المفرقعات المتكررة تترك آثاراً نفسية سلبية، خاصة على الأطفال الذين عاشوا سنوات من الحرب، فالأصوات تشبه إلى حد كبير أصوات الطلقات والانفجارات، ما يثير الذعر والهلع ويعيد إلى الذاكرة صوراً أليمة عاشها السوريون خلال سنوات الأزمة.
ويوضح الاختصاصي الاجتماعي حيدر السلامة أن الكثير من الأطفال الذين يتابعهم يعانون من اضطرابات قلق وخوف مفرط عند سماع المفرقعات، لأنها تذكرهم بمشاهد الحرب، هذه الألعاب ليست بريئة، بل تعمق الجراح النفسية، وتزيد من معاناة المجتمع.
في مدينة عانت ما عانته خلال سنوات الحرب، لا يحتاج الأهالي إلى المزيد من مصادر الخوف والقلق، المفرقعات ومسدسات الخرز قد تبدو في ظاهرها ألعاباً، لكنها في حقيقتها تهديد جدي للسلامة العامة، وفيما ينادي الأهالي بضرورة التحرك الفوري.. يبقى السؤال، هل تنجح الجهود الرسمية في القضاء على هذه الظاهرة، أم ستظل المفرقعات “قنابل صغيرة” تسرق من أطفال حلب براءتهم وأمانهم يوماً بعد يوم.