الثورة – إيمان زرزور :
في مشهدٍ رمزيٍّ يختصر قروناً من التاريخ وصوراً من الصمود، عادت قلعة حلب -أحد أقدم وأهم القلاع في العالم- إلى الحياة مجدداً بعد سنوات من الحرب والتدمير والزلازل، لتشهد بالأمس حفل افتتاح كبير على مدرج النصر بحضور رسمي وشعبي واسع، برعاية وزارة السياحة وبالتعاون مع وزارة الثقافة ومحافظة حلب.

تقف قلعة حلب على تلة شامخة وسط المدينة القديمة منذ آلاف السنين، وقد مرّت عليها إمبراطوريات وغزوات وأحداث، لكن صور الدمار الأخيرة التي طالتها خلال الحرب في سوريا شكّلت أبلغ شهادة على جرائم نظام الأسد بحق المدينة وأهلها وتراثها، إذ تضررت بوابتها وأسوارها ومدرجاتها الداخلية وتصدّعت أبراجها بفعل القصف العنيف، قبل أن يفاقم الزلزال الأخير من حجم الخراب.
ورغم ذلك، بقيت القلعة شاهدةً حيّة على ما جرى، واحتفظت بمكانتها بوصفها ذاكرة ناطقة بتاريخ المدينة وكرامة أهلها، لتتحول اليوم إلى رمز لانتصار إرادة السوريين على الدمار.
حفل الافتتاح بالأمس كان إعلاناً لعودة الحياة إلى قلب حلب القديمة، ورسالة بأن المدينة التي حاولت آلة الحرب محوها قادرة على النهوض من جديد، وقد ألقى وزير الثقافة كلمة مؤثرة قال فيها: «إن ثقافتنا الأصيلة عصية على الطمس رغم كل ما ألمّ بها خلال حقبة الحديد والنار والديكتاتورية»، فيما حيّا وزير الطوارئ وإدارة الكوارث رائد الصالح «أبطال حلب الشجعان الذين لولا دماؤهم لما كنا اليوم هنا في قلعة حلب».
أما الرئيس أحمد الشرع، الذي أنهى جولته في المدينة قبل الافتتاح بساعات، فقد نقل تحياته الحارة إلى أهل حلب ووعد بزيارة قريبة إلى القلعة، مؤكّداً أن حلب «حاضرة من حواضر التاريخ ويليق بها الفرح اليوم وكل يوم».
تُعد قلعة حلب من أكبر القلاع الإسلامية وأقدمها، ويعود شكلها الحالي إلى العصر الأيوبي خصوصاً في عهد الملك الظاهر غازي، تضم القلعة بوابة ضخمة مزخرفة بخطوط منحنية وخندقاً دفاعياً وجسراً حجرياً، وفي داخلها مساجد وقاعات استقبال وأبراج مراقبة وخزانات مياه، ما يجعلها نموذجاً فريداً لفن العمارة الدفاعية في الشرق الأوسط.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن تلة القلعة استخدمت كموقع محصّن منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، مروراً بالحثيين والآشوريين والفرس والرومان والبيزنطيين، ثم تحولت في العصور الإسلامية إلى قلعة كبرى عززت مكانتها العسكرية والسياسية، وأعيد ترميمها في عهود المماليك والعثمانيين.
بعد الحرب وما لحقها من زلازل، أطلقت وزارة السياحة ووزارة الثقافة بالتعاون مع محافظة حلب ومنظمات دولية مثل شبكة الآغا خان للثقافة مشاريع ترميم متعددة المراحل، شملت إعادة بناء الجدران، وترميم البرج الجنوبي والمآذن التاريخية، وإحياء مدرج النصر ليكون منصة للفعاليات الثقافية والفنية.
يرى القائمون على المشروع أن افتتاح القلعة بالأمس خطوة رمزية لإعادة الحياة إلى قلب حلب القديمة واستعادة ثقة سكانها وزوارها، فهي ليست حجارة صامتة بل ذاكرة ناطقة وأيقونة للهوية السورية المسجلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، ويُتوقع أن يسهم هذا الافتتاح في تعزيز السياحة الثقافية وتحريك عجلة الاقتصاد المحلي، فضلاً عن ترسيخ رسائل الصمود وإعادة البناء.
مدرج النصر، الذي شهد حفل الافتتاح، تحول إلى ساحة تجمع السوريين من مختلف المناطق، حيث ستقام عروض موسيقية وفنية ومسرحيات تاريخية تحاكي أمجاد القلعة وأدوارها في حماية المدينة على مر العصور، وكانت وزارة السياحة قد أعلنت أن القلعة ستصبح مقراً دائماً للأنشطة الثقافية والبرامج التعليمية الموجهة للطلاب والزوار، لتكون فضاءً مفتوحاً يعكس روح حلب المتجددة.
بهذا الافتتاح، تعود قلعة حلب لتنهض من بين الركام، شاهدةً على التاريخ وعلى جرائم نظام الأسد، ومرسلةً رسالة أمل مفادها أنّ سوريا رغم كل ما مرت به قادرة على استعادة عافيتها وبناء مستقبلها.