الثورة – لميس علي :
لماذا نبتهج كصحفيين، بعودة الإصدار الورقي لأي مطبوعة كانت، ولاسيما لصحيفةٍ انتمينا إليها وعرفناها قبل انتشار الصحافة الرقمية..؟ ولِمَ ننحاز لكل ما له علاقة بالمطبوع والشيء الملموس..؟ يبدو أننا نهوى انغراس معظم حواسنا مع ما نُنتجه من كلمات نريد لها أن تظهر بحلّةٍ ورقيةٍ قادرين على لمسها.

وكأن تحسس أوراق الجرائد وصفحاتها، يجعلها أكثر قرباً والتصاقاً بحضورنا “الفيزيائي”.
وبعيداً عن فكرة كون أي “إصدار ورقي” هو وثيقة تتحوّل مع الوقت إلى أرشيف، ثمة حاجة، لا تلبيها كل المعلومات الرقمية المنتشرة بكثافة لا تُحصى ولا يمكن ضبطها، هي الحاجة إلى استعادة دفء العلاقة مع “الورق”.
وكما لو أننا نستعيد بذلك كينونةً من “التأني المضبوط” في إبصار “الكلمة/المعلومة”، وفي آلية صنعها وتلقيها. صحيح أن الصحافة في الجزء الأكبر منها، تقوم على ملاحقة “الخبر والمعلومة” فتحتاج سرعة ومرونة، لكنها وضمن خطوات إنضاج “المقال” تتطلب الكثير من: (الدقة، المهنية، المصداقية، والمحاكمة المنطقية العقلانية) لمجمل سياقات إنتاج “الخلاصة” المطلوبة.. وكل هذا يحتاج إلى حالة من حكمة استخلاص ما يُطلب من “المادة الصحفية” وبدوره يجعل الصحافة منتميةً إلى الصناعة الفكرية التي تُقدّم للمتلقي ضمن إطار من جماليات لا يمكن إيجادها إلا ضمن “الحضور الورقي”، أي الصحف بمعناها المهيب.. وبفخامة تجسيدها مطبوعةً.
في زمنه، حين وصف الكاتب الفرنسي فولتير الصحافة بكونها “آلة يستحيل كسرها”، لم يكن ثمة أي وجود لعالم “الرقميات”، ومع ذلك وحتى بوقتنا الراهن حيث تتنامى الصحافة الرقمية بسرعة فائقة، تختص مقولته بعالم الصحافة “الورقية” لأنها تمتلك مميزات تتفوّق بمرّات على عوالم الصحف “الرقمية” الهشّة، التي تنهار إثر أي خطأ تقني أو هجوم سيبراني.
أُبهة “الورقيات” بمختلف أنواعها، ترتبط بذاكرة، وتمتاز الصحافة الورقية، دون الرقمية، بكونها صانعة لذاكرة، ولطالما كانت الاثنتان تعبّران عن هيئة تواصل مع (الآخر/المتلقي). لكن الأولى هي تواصل حدث بالفعل ذو ديمومة عبر معلومة موثّقة، بينما الثانية فهي تواصل حدث لكن دون ديمومة، تماماً كما في مقولة “جورج برنارد شو”: “أكبر مشكلة في التواصل هي الوهم أنه قد حدث بالفعل”.. وهو حال ما ينتشر حولنا من رقميات تحتل راهنية لحظاتنا.