الثورة – جهاد اصطيف
يواجه سكان حلب اليوم تحدياً من نوع آخر، يتمثل بانتشار ورشات تصليح السيارات في قلب الأحياء السكنية، هذه الظاهرة التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة، إلا أنها تحولت إلى صداع يومي يؤرق المواطنين، إذ لم يعد بالإمكان السير على الأرصفة أو ركن السيارات أو حتى التمتع بهدوء نسبي داخل المنازل.
ورغم صدور قرارات رسمية واضحة منذ سنوات، تلزم الورش بالانتقال إلى المناطق المخصصة لها خارج النطاق السكني، إلا أن الواقع يشي بعكس ذلك، فما زالت مئات الورشات تعمل في أحياء كالسليمانية، الميدان، صلاح الدين، الهلك وبستان الباشا وغيرها، محتلة الشوارع والطرقات، تحت أنظار السلطات المحلية التي يبدو أنها عاجزة حتى اللحظة عن فرض القانون بحزم.
شكاوى ومعاناة مستمرة
على امتداد شارع فرعي خلف “حج حبيب” في حي السليمانية، تصطف سيارات معطلة على جانبي الطريق، بعضها يبقى لأيام وربما أسابيع بانتظار دورها في ورشات التصليح، والأرصفة التي يفترض أن تكون ممراً آمناً للمشاة تحولت إلى مساحة لقطع الغيار القديمة وأدوات الميكانيكيين.
“أسعد. خ”، موظف حكومي، يسكن في الحي منذ أكثر من عشرين عاماً، يصف الوضع خلال حديثه لصحيفة الثورة قائلاً: كنا نعرف السليمانية كحي سكني هادئ نسبياً، لكن السنوات الأخيرة حولته إلى ما يشبه المنطقة الصناعية، لا تستطيع أن تفتح نافذتك صباحاً إلا ويصلك ضجيج المطارق، أصوات المحركات، ورائحة الزيوت المحترقة، حتى أطفالنا لم يعودوا يجدون مكاناً آمناً للعب.
أما “ناديا، أ”، وهي ربة منزل، فاختصرت المشكلة معتبرة أنها ليست فقط في الإزعاج، مضيفة: كل يوم نصادف مشاهد سيارات مركونة على الممرات، وقطعاً معدنية متناثرة، وزيوتاً مسكوبة على الأرض، أضف إلى ذلك صعوبة المرور بالنسبة للطلاب وكبار السن، تقدمنا بشكاوى عدة للبلدية، لكن الوضع لم يتغير كثيراً.
المهندس حسن الحجي يوضح أن المشكلة تتجاوز الإزعاج الظاهري لتصل إلى البنية العمرانية والبيئية للمدينة، فالأحياء السكنية مصممة لتكون بيئة هادئة، تتلاءم مع معيشة الأسر، دخول نشاط صناعي إليها مثل ورش تصليح السيارات يخل بالوظيفة الأساسية لهذه الأحياء، هذه الورشات تستخدم مواداً ملوثة مثل الزيوت، الشحوم، الدهانات، وهي مواد غالباً ما تسكب في الصرف الصحي مباشرة، ما يهدد بانسداد الشبكات وتلوث التربة والمياه.
ولفت إلى أن هناك أيضاً أثراً بصرياً سلبياً، منظر السيارات المعطلة المنتشرة في الشوارع يحول الحي إلى ورشة مفتوحة، ما يقلل من جمالية المدينة ويؤثر حتى على قيمة العقارات في هذه المناطق.
من جانبها، تشير الخبيرة البيئية لبنى صالح إلى أن التلوث الناتج عن هذه الورشات له انعكاسات صحية مباشرة، فالزيوت المحترقة والدهانات تطلق مركّبات كيميائية ضارة، بعضها مسرطن على المدى الطويل. كما أن الضجيج المستمر يتسبب في توتر عصبي للأهالي، وخاصة الأطفال وكبار السن، فما يجري في أحياء حلب هو انتهاك واضح للحق في بيئة صحية.
من جانب آخر، يبرر بعض أصحاب الورشات استمرارهم بالعمل في الأحياء السكنية، بقربهم من الزبائن، وصعوبة الانتقال إلى المناطق الصناعية التي تبعد عادة عن مركز المدينة.
محمد عثمان أحد الميكانيكيين يشير خلال حديثه لـ “الثورة”، إلى أن معظم زبائنهم من سكان هذه الأحياء، وفي حال انتقلوا إلى المنطقة الصناعية، سيفضل الزبون الذهاب لورشات أخرى أقرب، فالأمر بالنسبة لهم ببساطة يتعلق بالرزق والاستمرار، لكن هذا التبرير لا يقنع الأهالي الذين يعتبرون أن مصلحة عامة السكان يجب أن تتقدم على المصلحة الفردية.
تبرير ولكن !
المكتب الإعلامي لمجلس مدينة حلب، أوضح في معرض رده على تساؤلاتنا، أن المجلس يتعامل مع أصحاب الورشات والمحال الصناعية المنتشرة في معظم الأحياء وفق طرق وإجراءات عدة، ففي البداية يتم منح أصحاب الورشات الوقت بعد إنذارهم أصولاً قبل أن يتم التشميع، وأعطى مثالاً أنه قبل مدة تم تشميع نحو 10 محال في حي الخالدية بشكل نهائي.
وأضاف: المهم هنا أن يتعاون معنا المواطن، وكلّ شكوى تسجل بديوان المجلس رسمياً، تتم دراستها بدقّة من قبل رئيس المجلس، وفي حال وجد أنها صحيحة، يتم تحويلها إلى مديرية الأشغال الفنية لتتخذ القرار المناسب تجاهها، وفي حال اتخذ القرار بتشميع المحل أو الورشة، تقوم ضابطة المجلس بإنذار صاحب الورشة وتمنحه وقتاً لإغلاقها أو نقلها وفي حال عدم امتثاله للقرار، يتم تشميع المحل أصولاً.
وأشار إلى أن حجم العمل الكبيروالضغط، وانتشار الورشات المختلفة لكل صناعة في الأحياء بحلب، تجعل المجلس يعمل وفق الأولويات، وبحسب الشكاوى الواردة له من قبل المواطنين بهدف معالجتها أصولاً.
هنا يمكننا القول: إن أثرهذه الورشات لا يقتصر على المظهر البيئي أو العمراني فحسب، بل يمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية للأهالي، فالطلاب يواجهون صعوبة في التركيز بسبب الضجيج المتواصل، ما ينعكس على تحصيلهم الدراسي، والأمهات يعانين من غياب بيئة آمنة لأطفالهن، حيث تحوّلت الشوارع إلى أماكن خطرة مليئة بالقطع المعدنية والزيوت، وكبار السن يجدون أنفسهم مضطرين للسير وسط الطرقات المزدحمة بالسيارات، لأن الأرصفة محتلة، وقيمة العقارات في هذه الأحياء تشهد انخفاضاً ملحوظاً، إذ يفضل الكثير من المشترين البحث عن مناطق أكثر هدوءاً.
ويرى عدد من المهتمين أن الحل يتطلب خطّة شاملة، تتضمن تطبيقاً صارماً للقوانين من دون استثناءات، بحيث يتم إغلاق أي ورشة لا تلتزم بالخروج من الأحياء، وتهيئة بدائل مناسبة عبر تجهيز المنطقة الصناعية بشكل متكامل بالخدمات، ما يشجع الورشات على الانتقال، وتعويضات أو تسهيلات لأصحابها لتخفيف أعباء النقل، مثل إعفاءات ضريبية أو تسهيلات في الإيجارات، وتوعية مجتمعية حول مخاطر استمرار هذه الورشات داخل الأحياء السكنية.
كفى وعوداً
القضية لم تعد تحتمل مزيداً من التسويف، فبينما تستمر الجهات المعنية في إطلاق الوعود، يعيش الأهالي وسط ضوضاء وزحام وتلوث يومي، ومع تزايد أعداد السيارات وضيق الشوارع، قد تتحول الأحياء السكنية إلى “مناطق صناعية غير معلنة “، ما يهدد الطابع العمراني والاجتماعي للمدينة.
ويبقى السؤال معلقاً : هل ستنجح السلطات المحلية أخيراً في فرض النظام ونقل الورشات إلى أماكنها المخصصة، أم إن حياة الحلبيين ستظل أسيرة “ضجيج الورشات” إلى أجل غير معلوم؟