الثورة – مها يوسف
على تلةٍ خضراء تتكئ بهدوء قلعة أم حوش، لؤلؤة معمارية فريدة في ريف صافيتا، تُطلّ من عليائها على بحيرة الحوض الأوسط من نهر الأبرش، كأنها تحرس ذاكرة العصور التي مرّت على الساحل السوري، وتروي بصمتها حكايةً من حجارةٍ لا تزال تنبض بالحياة.
ترتفع القلعة قرابة 170 متراً فوق جسر الأبرش الأثري عند المدخل الجنوبي لسهل عكار، وتبعد نحو سبعة كيلومترات فقط عن مدينة صافيتا التاريخية، في موقعٍ يجمع بين جمال الطبيعة وبهاء الحضارة، حيث يلتقي الماء بالحجر، والذاكرة بالجغرافيا.
جذور ضاربة في التاريخ
يؤكد المؤرخ والآثاري بسام القحط أنّ قلعة أم حوش، شأنها شأن معظم القلاع والأبراج التاريخية في منطقة صافيتا القديمة، تعود بجذورها إلى الفترة الفينيقية الأروادية، قبل أن تُعاد هندستها في العهدين الروماني والبيزنطي، ثم تتخذ شكلها المعروف اليوم خلال العهد الصليبي.
آنذاك كانت القلعة حصناً رئيسياً يشرف على جسر نهر الأبرش، أحد أهم المعابر المائية المؤدية إلى صافيتا، وكانت قلعة برج صافيتا المركزية تسيطر بالنظر والإشارة على سائر قلاع وأبراج سهل عكّار والقسم الغربي من فتحة حمص، ضمن منظومة دفاعية متكاملة.
يصف القحط البرج المركزي في القلعة بأنه ثاني أكبر الأبراج بعد برج صافيتا، وقد بلغ ارتفاعه في أوج مجده نحو ثمانية عشر متراً.
شُيّد من الحجارة الكلسية الممزوجة بأحجارٍ بازلتية منقوش على بعضها صلبان بيزنطية، ما يشير إلى أن بناءه الأول يعود إلى العصر الرومي البيزنطي المبكر، أي قبل الحقبة الصليبية.
كان البرج يتألف من ثلاثة مستويات مترابطة وظيفياً:
صهريج تحت الأرض لتخزين المياه العذبة، قبو حجري أسطواني في الطابق الأرضي لخزن الغلال، والطابق العلوي لسكن الإقطاعي أو مقدم القلعة في زمن الفرنجة.
وقد تهدّم معظم البرج أثناء فتح السلطان الظاهر بيبرس للمنطقة عام 1268م واستعادتها من أيدي الصليبيين، ولم يبقَ منه اليوم سوى الجزء الشمالي من الجدارين الأول والعلوي.
التحصينات المحيطة
يشير القحط إلى أنّ البرج كان محاطاً بساحة دائرية مسوّرة تتوزع فيها أقبية حجرية أرضية مسقوفة بعقود متينة من جميع الجهات، لم يبقَ منها اليوم سوى القبوين الشرقي والغربي بطولٍ يقارب أربعين متراً لكل منهما، وقد تحوّلا حالياً إلى أماكن لتربية المواشي بعد أن كانا يوماً جزءاً من منظومة دفاعية تحرس قلب القلعة.
كنيسة الديموس
على بُعد نحو 800 متر إلى الغرب من قرية أم حوش، تقع كنيسة الديموس الصغيرة المنحوتة في الصخر عند مستوى سطح الأرض، وهي من الشواهد النادرة على زمن المسيحية الأولى في المنطقة.
تعود الكنيسة إلى نهاية القرن الثالث الميلادي، وتمتاز بطراز الصليب ذي القَرنين المنحوت على جدرانها الداخلية، وكانت تتبع إدارياً إبرشية السيسنية الواقعة على بعد ثلاثة كيلومترات شرق أم حوش على مجرى النهر ذاته، مما يدلّ على الدور الديني المبكر الذي أدّته المنطقة في التاريخ السوري القديم.
رحلة الجمال والذاكرة
ويختم القحط حديثه بالإشارة إلى أنّ قلعة أم حوش ما زالت تحافظ على هيبتها رغم تعاقب الزمن، فتجذب عشّاق التاريخ والطبيعة، ومحبي الاكتشاف الهادئ بين أطلالٍ ناطقة بصمت العصور.
من يقف على تلتها العالية يشهد بانوراما فاتنة تمتد من بحيرة نهر الأبرش إلى سهل عكار، حيث يتعانق الأخضر بالحجر، والماء بالذاكرة.
إنها ليست مجرد أطلالٍ باقية، بل صفحة حية من تاريخ صافيتا، تذكّر بأن في ريفها قلاعاً لا تزال تنبض بالحياة، وحجارةً تنطق بروح الأجداد.