الثورة – متابعة – عبير علي:
في أمسية فنية مفعمة بالجمال والتنوّع، نظّم النادي الثقافي العربي في الشارقة مساء السبت معرضاً تشكيلياً بعنوان «وجوه وبقايا ملوّنة»، ويستمر لمدة خمسة أيام، وقد قدّم الفنانان الزوجان النحّات ماهر علاء الدين والفنانة هيام سلمان تجربة فنية مشتركة جمعت بين صلابة الحجر ونعومة النسيج في احتفاء بصري يعبّر عن الذاكرة والبيئة والإنسان.
ضمّ المعرض نحو 22 منحوتة و49 لوحة فنية، تناغمت فيها رؤيتا الفنانين وتوحّدت موضوعاتهما المستلهمة من البيئة الساحلية والبحرية، في إشارة واضحة إلى مدينة اللاذقية التي عاشا فيها بين البحر والجبال، فحملت أعمالهما عبق المكان وملامح الذاكرة الأولى.
الخياطة كفنٍّ وذاكرة
تقدّم الفنانة هيام سلمان رؤيتها الخاصة من خلال فن الخياطة، حيث تستخدم بقايا الأقمشة والملابس القديمة لتصنع منها لوحات مشهدية تنبض بالحياة واللون. بخيوطها الدقيقة وإبرتها الرفيعة، تعيد تدوير المهمل إلى جمال، مستلهمة حرفة نسائية تقليدية كانت فيها الأيدي تصنع الأغطية والفرش من بقايا النسيج، فتحوّل ما تبقّى من الزمن إلى نسيج فني نابض بالذاكرة والحنين.
وفي حديثها لـصحيفة الثورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أوضحت سلمان أن مشروعها الفني Artful يقوم على فكرة التحوّل، قائلة: «ينبع مشروعي من إيمان عميق بقوة تغيّر المشاعر والروابط الإنسانية، وكذلك المواد المهملة كالحجر والنسيج.
إنها رحلة إبداعية تنتج أعمالاً تحمل الروح والمعنى، لتصبح رموزاً للذاكرة والصمود والحضور.. ولرحلة شفاء وإعادة اتصال بالذات وبالآخر وبالطبيعة معاً.
هي دعوة للتأمل في الجمال الكامن في الأشياء المهملة، واحتضان النقص، والعثور على المعنى، ليصبح الفن جسراً بين المحسوس وغير المرئي، يعزّز الشعور بالانتماء.»
وتضيف:«تناولت الأعمال القماشية مجموعة من الحكايا، فخلف كل لوحة قصة تروي الارتباط بالناس والوجوه والطبيعة، وأحيانًا بالأسطورة، أحاول توضيح أهمية التواصل مع البيئة المحلية والربط بين الماضي والحاضر، لتكون اللوحة توثيقاً امتداداً مستقبلياً لهما، وإن بقايا القماش الملوّنة والمهملة تتحوّل في أعمالي إلى إمكانيات جديدة، بين ما كانت عليه وما أصبحت فيه، قصاصات صغيرة جمعتها حين كانت متنافرة، فتجاورت الخشنة مع الناعمة، وتجاوبت الملوّنة مع أحادية اللون، واحتضنت الكبيرة الصغيرة لتكوّن نسيجاً بصرياً متكاملاً تنبع جماليته من تناغم الاختلاف.
وتتابع الفنانة حديثها قائلة: «تتجلّى أهمية هذا المعرض في كونه المعرض الثنائي الأول لي ولزوجي النحّات ماهر علاء الدين، والذي احتضنه النادي الثقافي العربي بالشارقة، إمارة الثقافة والأدب والفن.
إنها محاولة لأن نكون جزءاً من الحراك الثقافي المتواصل في الإمارة، وامتداداً لسيرتنا الفنية التي بنيناها في سوريا ومشاركاتنا في عدد من البلدان العربية والأجنبية».
وجوه وصوت البحر الصامت
قدّم النحّات ماهر علاء الدين أعمالاً نحتية استثنائية تمحورت حول وجوه بشرية منحوتة من حجارة الشاطئ الرملية، أضفى عليها روحاً جديدة تعبّر عن مشاعر إنسانية متنوّعة، الصبر، العزيمة، الحزن، الفرح، الخوف، الترقّب، والأمل.
وجوه تنطق بملح البحر وقسوته وعطائه وجماله المتناقض، وكأنها تستحضر وجوه البحارة الذين شكّلوا ذاكرة الساحل السوري وروحه.
تنوعت منحوتات علاء الدين بين أحجار جُمعت من سواحل دولة الإمارات وأخرى أحضرها من الساحل السوري ومدينته اللاذقية، فحوّلها إلى منحوتات نابضة بالحياة تحمل قصصاً إنسانية ووجوهاً تعبّر عن الذاكرة والوجدان، لها أصواتها وأنينها وصرخاتها، وتوثّق حكايات المكان والإنسان معاً. ويقول علاء الدين في حديثه لصحيفة الثورة: «في المعرض كانت لإعادة التدوير قيمة مضافة، فالمنحوتات الحجرية التي تجلّت بأعمال بورتريه من الحجر، بعضها من حجارة البحر المتوسط القاسية والصلبة كأحجار السيربانتين التي كنا نقيم بجوارها في سوريا، وأخرى من أحجار شواطئ الخليج العربي الرملية حيث نقيم حالياً في عجمان.
حجارة رماها البحر في كلا الحالتين وتلقّفتها، لتتحوّل كل قطعة إلى حكاية وجهٍ لبحّار متعب، حزين أو حائر.
هي تجربة تعيد استخدام الأشياء المهملة لترتقي بالمادة وتمنحها حياة جديدة.»
حوار بين الحجر والنسيج
يقدّم المعرض في مجمله رؤية فنية مزدوجة توحّد بين صلابة الحجر ونعومة النسيج، وبين الذكورة والأنوثة في التعبير عن الذاكرة والبيئة والإنسان.
إنه حوار بين مادتين مختلفتين تتكاملان في المعنى، النحت كتجسيد للصمود، والخياطة كترميم للذاكرة.
بهذا اللقاء بين الزوجين الفنانين، يتجلّى الفن كقيمة إنسانية عليا تعيد تشكيل علاقتنا بالعالم، وتذكّرنا أن الجمال لا يُصنع من الكمال، بل من قدرة الإنسان على تحويل ما هو عابر ومهمل إلى معنى خالد.
الدهشة والذاكرة
عبّر الفنان التشكيلي السوري علي نفنوف عن انطباعه بعد زيارته للمعرض قائلًا: «خلال زيارتي واجهت قضيتين أساسيتين، الدهشة والذهول.
كان من الطبيعي أن أقف أمام تجربة تحمل خصوصيتها وسرّها، تجربة تتصل بالذاكرة والبيئة التي عشناها في سوريا.
فالفن هنا لا يقتصر على تحويل المادة إلى منحوتة، بل هو إعادة خلق للذاكرة الشعبية والتراث الموروث، واستعادة لقيمته التاريخية داخل اللوحة أو المنحوتة.
في أعمال هيام سلمان وجدت ما يشبه الرقم الطيني القديم وقد جسّدت فيه نغمة موسيقية من موسيقا أوغاريت العريقة، ذلك التحدي الفني الذي يجمع بين الإبرة والخيط واللون والموسيقا، ليقول إننا شعب يحرص على حفظ تاريخه وذاكرته وهويته.
أما في أعمال ماهر علاء الدين، فقد وقفت أمام الوجوه المنحوتة وهي تصيح بصمتٍ عميق: “قف وتأمّل وأصغِ إلى ذاتك.. أنت سوري تمتلك القدرة على التفكير والمضي قدماً”.
وجوه مشبعة بالكرامة والصبر والإصرار، تذكّرنا أن الفن ليس ترفًا بصريًا، بل شهادة على الحياة نفسها.