حين يشيخ الدفء.. بين حضن البيت ورعاية دور المسنين

الثورة – ميسون حداد:

حين يشيخ الزمن وتتهدّل ملامحه على الوجوه، يصبح العمر مرآةً تعكس حيرة الكبار وأبنائهم معاً، فهنا أب أو أم يواجهان ثِقَل السنين، وهناك أبناء يتقلّبون بين قلب يخاف الفقد ويد تخشى التقصير.و يتقاسم الطرفان، هذه الحيرة الإنسانية فلكلٍّ منهما وجعه وحنينه وعجزه الخاص أمام مرور الزمن.

حول هذه الإشكالية التي تمسّ القلب والضمير معاً، حاورت “الثورة” الدكتور رفيف المهنا، الكاتب والطبيب النفسي، عن خيوط العلاقة بين الأجيال، وما تخبّئه من مشاعر دقيقة تتأرجح بين الرغبة في البقاء والقدرة على الرعاية.

بين الدفء والغربة

تختلف تجربة كبار السنّ بين العيش في دور الرعاية والبقاء ضمن الأسرة اختلافاً عميقاً من الناحيتين النفسية والاجتماعية، فالإقامة في دور الرعاية تمثّل بالنسبة إلى الكثيرين تجربة غربة حقيقية، إذ يجد كبار السنّ أنفسهم ينتقلون من تاريخ طويل وحياة مألوفة مليئة بالعلاقات والذكريات إلى واقعٍ جديد تماماً، يفتقر إلى الألفة والدفء العائلي. ويقول المهنا في هذا السياق: “هي في جوهرها تجربة غربةٍ عن الذات والمكان والناس، غربة تتكرّر في تفاصيل حياتهم اليومية وتشعرهم بالانفصال عن ماضيهم وبيئتهم الطبيعية”.

تحوّلات الحياة المعاصرة

في ظلّ تغيّر أنماط الحياة وضغوطها، يمكن فهم لجوء بعض الأسر في الوقت الحاضر إلى دور الرعاية، باعتبارها نتيجة طبيعية للتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة، فقد أصبح هناك ميلٌ عام إلى تقبّل فكرة أنّ الحياة تغيّرت، وأنّ الأوضاع لم تعد كما كانت في السابق. وبات كثير من الآباء والأمهات يتفهّمون ظروف أبنائهم، ولا يطلبون منهم الحضور الدائم كما اعتادوا قديماً. ويشير المهنا إلى أن الأبناء اليوم يعيشون نمط حياة مزدحم بالانشغالات، فلم يعد لديهم الوقت الكافي لرعاية أهلهم كما في السابق، ما أدّى إلى تقلّص الزمن المخصّص للرعاية المنزلية. إن خروج المرأة إلى ميدان العمل غيّر معادلة الرعاية الأسرية، لأنّها كانت تمثّل سابقاً الركيزة الأساسية في الاهتمام بكبار السنّ داخل البيت، بينما كان الرجل يقضي وقته في العمل. ويضيف: “اليوم، أصبحت مهمة الرعاية أكثر صعوبة، وأحياناً تُشكّل عبئاً على نمط الحياة الجديد للأبناء في بيوتهم المستقلة”، مؤكداً أنّ هذا التحوّل يبدو طبيعياً في مسار الحداثة الاجتماعية، ولا يمكن مقاومته بالكامل لأنه يعكس واقعاً عاماً لا مفرّ منه.

وبين رغبة الاحتضان وضغط الواقع، يرتبط خيار اللجوء إلى دور الرعاية بعدّة عوامل متشابكة، أهمّها طبيعة العلاقات داخل الأسرة نفسها. فالمسألة لا تتعلّق فقط بالظروف المادية، بل أيضاً بالعلاقات الزوجية والعائلية التي تحكم البيت المضيف لكبير السنّ. فحين يكون كبير السنّ مشاركاً ومتفاعلاً، يُعطي طاقةً إيجابيةً ويُشعر من حوله بالراحة والحنان، ويصبح وجوده في البيت قيمة مضافة كما يوضح د. المهنا، أمّا إذا كان وجوده مشوباً بالتذمّر أو الغضب أو الإحساس بالضيق، فقد يتحوّل إلى مصدر توتّرٍ داخل البيت، ويصبح خروجه إلى دار الرعاية أحياناً ضرورةً للحفاظ على التوازن الأسري”. ويؤكد أن القرار في هذه الحالة لا يكون بالضرورة تعبيراً عن القسوة أو التخلّي عن المسؤولية، بل قد يكون خياراً وقائياً يهدف إلى حماية جميع الأطراف من طاقة سلبية تُربك العلاقات داخل الأسرة.

أما من المنظور النفسي، فيتوقف تأثير انتقال كبير السنّ إلى دار الرعاية على طبيعة العلاقة التي كانت قائمة قبل الانتقال. فإذا كانت العلاقة بين الأهل وأبنائهم يسودها الاحترام والمحبّة والتفاهم، فإنّ الانتقال لا يقطع الصلة العاطفية، بل قد يجعلها أكثر صفاءً. حين تكون العلاقة صحّية في الأساس، تبقى المحبّة قائمة حتى لو ابتعدت الأجساد، يقول المهنا، فالكثير من الكبار لا يريدون أن يكونوا عبئاً على أبنائهم، ويتفهّمون ضغوطهم المعيشية والنفسية، فيرضون بالإقامة في دار الرعاية بطمأنينة. أمّا إذا كانت العلاقة في الأصل مضطربة أو باردة، فإنّ الرعاية المؤسسية قد تُعمّق المسافة العاطفية وتزيد الفتور بين الطرفين.

تحدّي التوازن

تحقيق الأبناء لتوازنٍ صحيٍّ بين رعاية الأهل ومتطلّبات حياتهم العملية والعاطفية ليس بالأمر الهيّن، فاستقبال شخصٍ كبيرٍ في السنّ داخل البيت تجربة إنسانية تحتاج إلى وعيٍ وتخطيط. الرعاية المنزلية ليست قراراً عاطفياً فحسب، بل مسؤولية تتطلّب استعداداً نفسياً ومادياً، يقول المهنا، مشدّداً على ضرورة أن يسأل الأبناء أنفسهم عن مدى قدرتهم على تحمّل هذه المسؤولية قبل الإقدام عليها.

ويضيف:”حين تُبنى الرعاية على الوعي والقدرة، تصبح عملاً نبيلاً يعيد شيئاً من الجميل للوالدين، أمّا إن جاءت من اندفاعٍ غير محسوب فقد تتحوّل إلى عبءٍ يولّد توتّراً بدلاً من المودّة”. وأحياناً تظهر داخل الأسرة خلافاتٌ حول أسلوب رعاية الأهل، بين من يفضّل بقاءهم في البيت ومن يرى أنّ الاستقلال هو الحلّ الأنسب.

هذه الخلافات تحتاج إلى نضجٍ عاطفيٍّ في إدارتها، فلا ينبغي أن يُبنى القرار على الشعور بالواجب القسري، بل على المصلحة الحقيقية لجميع الأطراف.

ويوضح المهنا أن بعض الأبناء أكثر استعداداً من غيرهم لتحمّل المسؤولية، تبعاً لظروفهم أو لطبيعة شركائهم في الحياة، ولا يمكن توزيع الأدوار في الرعاية توزيعاً ميكانيكياً بين الإخوة.

فالمطلوب، بحسب المهنا، هو تنظيم الحوار داخل الأسرة بروح التفهّم لا بروح اللوم، لأنّ الرعاية ليست سباقاً لإثبات البرّ، بل هي عمل إنساني تشترك فيه القلوب بقدر ما تشترك فيه الأيادي.

اختبار الحبّ الناضج

في بعض الحالات، يشعر أحد الزوجين بثقل المسؤولية تجاه والديه، بينما يرى الشريك الآخر أنّ هذا الالتزام يتجاوز قدرته ويمسّ خصوصية الأسرة الصغيرة، وهذا الموقف لا يتعلّق بالرعاية فقط، بل بطبيعة العلاقة بين الزوجين ومدى قدرتهما على التفاهم والتوازن.

يقول المهنا، موضحاً: إن الأساس هو أن يعرف كلّ طرف قدرات الآخر وحدوده، وألا يحمّله أكثر ممّا يستطيع، وحين تُدار هذه الخلافات برويّة وتعاطف، يمكن أن تتحوّل التجربة إلى مساحة نضجٍ وتقاربٍ لا إلى مصدر خلاف، فالرعاية هنا اختبارٌ للحبّ الناضج، فالحب الحقيقي هو أن تعرف متى تساند، ومتى تترك مساحةً للآخر كي لا يفقد توازنه.

وحول التحوّل في الوعي الاجتماعي، يرى الدكتور المهنا أنّ المجتمع شهد عمليات تجديد في بنيته الفكرية انعكست على طريقة النظر إلى مسألة الرعاية، فلم يعد الشعور بالذنب الذي كان يرافق الأبناء في الماضي تجاه آبائهم بالحدّة نفسها، لأنّ فكرة الاستقلالية وتخفيف الاعتمادية أصبحت جزءاً من الوعي الاجتماعي الحديث، فالأشخاص باتوا يمرّنون أنفسهم نفسياً على قبول هذا التغيّر من خلال خبراتهم المتنوعة في العلاقات الزوجية والتربوية والاجتماعية.

ويضيف: “وهذا النوع من التدريب النفسي غير المباشر هو ما يجعل تعامل الأجيال الجديدة مع كبار السنّ أكثر نضجاً وتوازناً، بوصفه جزءاً من مسار التحوّل الاجتماعي العام”.

يبقى الدفء الحقيقي حيث تُفتح القلوب قبل الأبواب، وحيث يجد الكبار مكانهم في ذاكرة من يحبّونهم، لا في جدرانٍ تحفظ أجسادهم فقط، فالحبّ حين يُمنح بصدق، يُبقي الشيخوخة شابة.

آخر الأخبار
السفير الألماني يدعو إلى تجديد التبادل التجاري مع سوريا   المراهق.. فريسة بين تنمر المجتمع والعالم الرقمي  اختصاصات جديدة تعيد رسم ملامح كليات الشريعة  مشاريع الخريجين وتأهيلهم لسوق العمل على الطاولة   خرسانة المستقبل.. ابتكار سوري يحول الأمطار إلى ثروة مائية  التدريب والتأهيل.. فجوة بين العرض والطلب في سوق العمل  تصدير 11 ألف رأس من الماشية الى السعودية "المركزي" يمنح البنوك مهلة 6 أشهر لتغطية خسائر الأزمة اللبنانية بدء تنفيذ مدّ الطبقة الإسفلتية النهائية على طريق حلب – الأتارب الإحصاء.. لغة التنمية ورهان المستقبل "التربية والتعليم ": الإشراف التربوي في ثوب جديد وزير الداخلية يترأس اجتماعاً لبحث الواقع الأمني في ريف دمشق "المواصلات الطرقية": نلتزم بمعايير الجودة بالصيانة وضعف التمويل يعيقنا البنك الدولي يقدّر تكلفة إعادة إعمار سوريا بـ216 مليار دولار "صحة اللاذقية" تتابع 24 إصابة بالتهاب الكبد A في "رأس العين" حملة إزالة الأنقاض تعيد الحياة إلى شوارع بلدة معرشمشة سوريا والصين.. رغبة مشتركة في تصحيح مسار العلاقات زيارة الشيباني المرتقبة إلى بكين.. تعزيز لمسار التوازن السياسي هل تعوق البيانات الغائبة مسار التعافي في سوريا؟ شوارع حلب تقاوم الظلام .. وحملات الإنارة مستمرة