سلطان الكنج:
عندما نتحدث عن الثورات، يتبادر إلى الأذهان مشهد الجماهير في الشوارع، وهتافات الغضب، وسقوط الرموز السياسية والأمنية للطغاة.
غير أن هذه الصورة على الرغم من أهميتها لا تمثل جوهر الثورة العميق، فالثورات لا تكون فقط ضد الأنظمة السياسية وأجهزتها القمعية، بل ضد العقلية والثقافة التي أنتجت تلك الأنظمة وكرّست استبدادها.
الاستبداد لا يقوم على القمع وحده، بل يعيش ويتغذى من ثقافة الطاعة والخوف وتمجيد القوة، فهي ثقافة يتشربها المجتمع حتى تصبح جزءاً من وعيه الجمعي، لذا تسهل السيطرة عليه.
أخطر ما تنتجه الأنظمة الشمولية ليس فقط أجهزتها الأمنية أو سجونها المرعبة، بل العقلية التي رسّختها في وعي الناس: عقلية الإقصاء والولاء الأعمى والتطبيل وعبادة الفرد والخضوع والصمت باسم الوطنية، أو الخوف من أن تكون معارضاً باسم “المصلحة العامة”.
هذه العقلية هي التي خلقت الاستبداد وحرسته، وأعادت إنتاجه عبر الأجيال.
الثورة مهما عظمت، فإن قيمتها الحقيقية تكمن في سحق الأفكار الاستبدادية، وخلق أفكار مغايرة تكرّس الوعي الحرّ الذي يعمل كمناعة ذاتية تحمي المجتمع من بقايا خلايا التفكير الاستبدادي، ثقافة الاستبداد يمكن أن تنمو كخلايا سرطانية فتهاجم الوعي التي قامت لأجله الثورة.
الثورة إذاً فكرة ووعي قبل أن تكون شعارات ومظاهرات وكفاحاً مسلحاً، وكذلك الأنظمة الاستبدادية قبل أن تكون أجهزة أمنية، فهي ثقافة ترهيبية وطائفية “كما في الحال السورية أيام الأسد” قائمة على الولاء القسري.
لذا كانت الثورات أفكاراً ومفاهيم قبل أن تتحول إلى كيانات وتكتلات سياسية.
الثورة السورية عندما قامت حملت أفكاراً، وحاربت أفكاراً استبدادية، فحرّرت الأذهان من ثقافة الخوف وأفكار الولاء القسري.
تجارب التاريخ تثبت أن أعظم الثورات لم تكن مجرد تغييرات في السلطة، بل كانت انقلابات على الثقافة السائدة.
النظام السوري البائد لم يبنِ سلطته على الأجهزة الأمنية فحسب، بل على شبكة ثقافية وإعلامية رسّخت ثقافة التمجيد والولاء، مفردات مثل «القائد الخالد»، «الأب»، «الرمز» لم تكن مجرد شعارات، بل أدوات هندسة نفسية تجعل المواطن تابعاًُ مطيعاً، يخاف من التفكير ويشكّ في ذاته.
كما رسّخ النظام مفاهيم استبدادية أخرى: قداسة المسؤول، امتياز السلطة، التطبيل والمحسوبية، فصار يُنظر إلى السلطة كوسيلة للنهب وممارسة الطغيان على المجتمع، في حين أصبح إذلال الناس وبناء أسوار من المجد الشخصي جزءاً من الممارسة اليومية للنظام.
وتحولت هذه الممارسات إلى وعي جمعي، حتى غدا من السهل نسيان أنها عيوب أخلاقية، وأصبحت الثقافة الاستبدادية شبكة معقدة تُوظف الإعلام والدراما والممارسات اليومية في تكريسها.
بناء سوريا المستقبل لا يبدأ بالدستور أو البرلمان فحسب، ولا بتشريع قوانين جميلة على الورق، فقد كانت لدى النظام قوانين «تنافس» قوانين سويسرا والسويد لكنها كانت حبراً على ورق.
نحن بحاجة لإشاعة ثقافة الحرية التي طالب بها السوريون منذ الصرخة الأولى وقدّموا من أجلها الغالي والنفيس. ثقافة تربوية دائمة تعلّم الطفل كيف يفكر لا كيف يطيع، وتعيد للفن والفكر دورهما النقدي الحر بعدما حوّلهما الاستبداد إلى أدوات لتجميل السلطة.
سوريا الجديدة لا يمكن أن تقوم على نسخة معدّلة من النظام القديم، بل على مجتمع يعترف بالتعدد ويحترم الاختلاف، ويجعل كرامة الإنسان فوق كل اعتبار، فكرامة الإنسان كانت وستظل مقصداً من مقاصد الثورة.
لم يكن مقصد الثورة السورية فقط إزالة نظام الأسد كنظام سياسي أمني قمعي، بل إزالة الثقافة البعثية الاستبدادية التي رسّخت الولاء القسري، وحمت النظام.
إذا كانت الأنظمة المستبدة قد شَيّدت جدران الخوف في نفوس الناس، فإن الثورة الحقيقية هي في تحطيم تلك الجدران. كل كلمة حرة، كل فكرة نقدية، وكل فعل ثقافي يواجه الكذب والتقديس، هو جزء من المعركة الكبرى لبناء وطن جديد.
الثورات التي لا تغيّر العقول ولا تسحق ثقافة الاستبداد تُهزم، حتى لو غيّرت الأنظمة، أما الثورات التي تزرع في الوعي قيم الحرية والعقل والمواطنة، فهي التي تبني الأوطان من جديد. طريق سوريا هو خلق ثقافة وعي، فهي الهدف الحقيقي للثورة.