الشرق كما رأته أغاثا كريستي.. غارق بالغموض

الثورة – حسين روماني:

من يقرأ روايات أغاثا كريستي، لا يمكنه إلا أن يتوقف طويلاً عند حضور الشرق العربي في عالمها السردي، فهذه السيدة التي اشتهرت بجعل القصور الريفية والقطارات الأوروبية مسارح للجريمة، لم تكتفِ بمناخ الضباب البريطاني،

 

بل عبرت البحر نحو شمس العراق ونيل مصر وصحراء الجزيرة، لتكتب هناك روايات مختلفة النكهة والمزاج، وكأنها حين اقتربت من الشرق، اقتربت من الذات الإنسانية في أكثر وجوهها عريا وصدقا.

اختارت كريستي الشرق العربي ليس لمجرد التغيير المكاني، بل لأنها وجدته فضاءً يسمح بانكشاف الإنسان على جوهره.

كانت قد رافقت زوجها، عالم الآثار ماكس مالوان، إلى مواقع الحفريات في نينوى ونمرود وتل العمارنة.

هناك، وسط الغبار والآثار والوجوه الشرقية الطيبة، اكتشفت أن هذا الشرق ليس خيال الرحالة الإنجليز، بل هو عالم ينبض بتناقضاته، فيه السحر والبراءة والدهاء والقدر، كلها تتجاور كما تتجاور طبقات الأرض في المواقع الأثرية التي أحبتها.

في رواية “الموت على النيل” مثلاً، نجد الشرق كمرآة للجمال والموت معاً، فالنيل عندها ليس مجرد نهر، بل مجاز للحياة التي تجري بهدوءٍ تحت سطحها أسرار لا تُقال.

 

على سطح الباخرة التي تشقّ مياه الأقصر وأسوان، تجتمع الأرواح الأوروبية المترفة، وتُرتكب الجريمة في فضاء يذكّر بأن الشرق هو المكان الذي “تستيقظ فيه الأرواح القديمة”،لا عجب أن يختار بوارو أن يحلّ اللغز هناك، حيث الزمن لا يسير بخط مستقيم بل يدور في دوائر كما تدور مياه النيل حول الجزر، أما في “جريمة في بلاد الرافدين”، فالعراق ليس مجرد خلفية جغرافية، بل شخصية روائية بحدّ ذاتها.

هناك، في بيتٍ صغير من الطين على مقربة من نهر الفرات، تُقتل زوجة عالم الآثار وسط فريقٍ أوروبي يعيش في عزلة، كأنهم على كوكب آخر، وهنا تتجلّى براعة كريستي في التقاط تفاصيل الحياة العراقية اليومية: حرارة النهار، صمت الليل، بساطة العمّال المحليين، لكنها لا تسخر منهم، بل تكتب عنهم بحنوّ عجيب، فتجعل القارئ يشعر أن تلك الأرض، رغم بعدها عن لندن، هي أكثر دفئاً وصدقاً.

اختارت العراق للمرة الثانية في روايتها “وصلوا إلى بغداد”، وبحسب رؤيتها، انتقلت من الجريمة الفردية والمؤامرات الكبرى لتجعل من بغداد مركزاً للعبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية.

المدينة عندها مليئة بالجواسيس والرحّالة والباحثين عن مجدٍ أو عن حبّ، لكنها أيضاً مدينة ذات روح، فيها الأسواق والعطور والليل الشرقي المملوء بالمفاجآت.

 

خلف هذه الحبكة البوليسية تلوح رؤية الكاتبة للعالم الشرقي، ليس مجرد مكان للغموض، بل مسرح لصراع القوى، إذ تتقاطع الرغبة بالعقل، والعاطفة بالسياسة.

قد يقول قائل إن كريستي نظرت إلى الشرق بعين استشراقية، وهذا صحيح جزئياً، لكنها كانت أقرب من غيرها إلى أنسنة تلك الصورة.

لم تكن تراه فضاءً همجياً أو خرافياً فحسب، بل مكان للدهشة والتأمل، إذ يشعر الإنسان الغربي بأنه يعود إلى أصله الأول، ففي الشرق كانت ترى ما فقده الغرب من بساطة ودفء، وربما من إيمان بالقدر.

سرّ جاذبية رواياتها الشرقية يكمن في هذا المزج بين الواقعي والأسطوري، بين الدقة البوليسية وسحر المكان، كانت تعرف أن الجريمة حين تقع على ضفاف النيل أو بين أطلال نينوى تكتسب بُعدًا آخر، فالموت هنا ليس عبثاً، بل امتداد لحياةٍ أزلية تجد طريقها نحو الأساطير، لذلك يخرج القارئ من رواياتها ليس مشغولًا بمن هو القاتل، بل بسؤالٍ أعمق: لماذا يبدو الشرق وكأنه يعرف سرّ الموت أكثر مما يعرفه الغرب؟.

اختارت كريستي الشرق لأنها أحبّته، ولأنه منحها مسرحاً أوسع من قاعات لندن، فيه وجدت ما يشبه الحلم: أرض غامضة، لكنها واقعية، قاسية، لكنها حنونة، ولعلّها كانت، من حيث لا تدري، تكتب عن الشرق لتكتشف ذاتها: هي امرأةٌ غربية تبحث عن نظامٍ في عالمٍ فوضوي، فتجده في صمت الصحراء، وصبر الفرات، ونبض النيل.

يقول الصحفي والناقد طارق حميد للثورة: “أغاثا كريستي لم تكتب عن الشرق بوصفه ديكوراً غريباً أو خلفية سياحية للأحداث، بل بوصفه كائناً حياً يتنفس في رواياتها، فهي كانت تدرك أن الشرق ليس مجرد فضاء مكاني، بل حاضنة لأسئلة الإنسان الأولى عن الحياة والموت، وعن الصراع بين القدر والإرادة”.

ويرى حميد أن كريستي، بخلاف كثير من الكتّاب الغربيين الذين حملوا نزعة استشراقية متعالية، استطاعت أن تخلق توازناً بين دهشتها بالشرق واحترامها له، فصورت الإنسان العربي لا كرمز للغرابة، بل كجزء من النسيج الإنساني الكوني.

ويضيف: إن ما يجعل حضور الشرق في أعمالها لافتاً هو قدرتها على منح المكان صوتاً خاصاً، حتى ليبدو النيل أو الصحراء أو الفرات شخصية ثانية في الرواية.

إنها لم تكن تكتب عن المكان فقط، بل من داخله، ومن هنا تنبع جمالية نصوصها التي جعلت الجريمة البوليسية تلتقي بالأسطورة والروح.

فبين تفاصيل الحفريات، وصدى الآذان عند الغروب، وصمت المقابر القديمة، كانت كريستي تستحضر الشرق كذاكرةٍ لا تموت، وكأنها تذكّر الغرب بأن الحضارة التي أنجبت أسرارها الأولى لا تزال قادرة على إلهامه حتى في أكثر لحظاته عقلانية وبرودًا. من يقرأ هذه الروايات اليوم لا يقرأ جريمةً فحسب، بل يقرأ تاريخاً كاملاً من نظرة الغرب إلى الشرق، ومن افتتان امرأةٍ بالعالم العربي الذي لم تفهمه تمامًا، لكنها أحبّت أن تظل تكتبه مرارًا، كما لو كانت تحاول الإمساك بسرٍّ لا ينكشف أبداً.

آخر الأخبار
نقل دمشق: إجراءات لتسهيل نقل الملكية وتخفيض للرسوم "لوبان" إشارات الجمال سوريا بوابة إلى المتوسط ومركز للتنمية البحرية الصناعية والسياحة الأغذية المصنّعة.. لذّة سريعة وعبء صحي مؤجّل توازن الحياة بين العمل والأسرة.. رؤية إنسانية في زمن الضغوط تأهيل مدرسة عربين السابعة وتعبيد وتزفيت طريق السليمة - التل أهالي حي التضامن يشكون تراكم القمامة، و"النظافة" تعد بالحل ! التشاور مع الصناعيين ضمانة لاتخاذ قرارات متوازنة تعزز النمو خبراء يطالبون بإنقاذ قطاع النحل وتسويق تعاوني للعسل السوري هيئة التميز والإبداع لإعداد جيل يقود المستقبل التعرض للجوار بالإيذاء في القانون.. حفظ الحق لتماسك المجتمع مقهى النوفرة ينبض بذاكرة دمشق العمل الإنساني.. عندما يكون بأيادٍ أمينة اقتصاد على النار.. مطاعم دمر الشعبية بين الحفاظ على السمعة والخسائر بين سوء إدارة الإسكان وفسادها ضاعت أحلام الشباب بالمسْكَن مونديال الناشئين.. فوز فرنسا وخسارة السعودية الزراعات الاستوائية تتوسع.. والمزارع يغامر بسلّته الغذائية محطات المعالجة بطرطوس.. تأهيل وصيانة لرفع التلوث عن مصادر المياه بعد سنوات الغياب.. المعلّم رمضان يعود إلى حلب ليزرع الأمل والعلم لقاءات متكافئة في الجولة الرابعة من الدوري الأوروبي