الثورة – همسة زغيب:
استيقظ السوريون في صباح الثامن من الشهر الأخير للعام الماضي على انتصار الثورة، يوم أعاد فرحة وطن بعد خمسة عقود ونيف من الطغيان والاستبداد. كان الصباح بشارة خلاص، يحمل وعداً بالحرية والكرامة، ويعيد إلى ذاكرة السوريين أملهم في حياة جديدة، لتنبثق القدرة على سرد التاريخ والذاكرة، كي تكشف ما عاشه السوريون من كمّ الأفواه والقمع لكل المبدعين والمفكرين والفنانين.إن أولى ضحايا القمع كانت العقول الحرة من بينهم “عبد العزيز الخير وزكي كورديللو”، من حملوا مشروعاً فكرياً وإنسانياً، هؤلاء لم يكونوا مجرد أسماء، بل ذاكرة وطنية حيّة، اقتيدوا إلى المجهول، تاركين فراغًا لا يُملأ، ويعتبر كورديللو، الممثل والمخرج المسرحي من أعزاز، كرس حياته للمسرح القومي وإحياء فن خيال الظل بعد رحيل آخر المخايلة التقليديين. في بداية الثورة السورية حيث داهمت قوات الأمن منزله واعتقلته مع ابنه مهيار وأقاربه، ليغيب منذ ذلك اليوم في مصير مجهول، حاملاً معه جسراً بين التراث والحداثة.
كما فرّ بعض الطيارين خارج البلاد لتجنب قتل أهلهم، حاملين معهم قصص صمود الشعب السوري، لم يقتصر الاضطهاد والظلم على الفئات المثقفة بل طالت الكثير من الأطباء ومازالت قصة طبيبة الأسنان الدكتورة رانيا العباسي وزوجها وأولادها الستة إضافة إلى سكرتيرتها حكاية ألم تعتصر النفوس، لتغيب عائلة كاملة عن الوجود مشهد تكرر في مدن عديدة، حيث اقتيدت عائلات إلى مصير مجهول، لتتحول إلى أرقام في مقابر جماعية بلا شاهد أو قبر يحمل اسماً.
وتبقى الشابة اليافعة طل الملوحي من حمص تطرق الذاكرة رغم خروجها بسلام حيث تمَّ اعتُقالها، ولم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، والأسباب أنها كتبت مقالات رأي على مدونتها كان اعتقالها رسالة واضحة: لا مكان لجيل جديد يحمل الكلمة الحرة.
الكلمة الحرة
ومازالت قصة محامي المعتقلين المغيب قصرياً خليل معتوق، كونه دافع عن المظلومين، اختفى في غياهب الاعتقال ولن ننسى ذاكرتنا شيخ المعارضة، إذ قبع في زنزانته منفرداً عشرين عاماً في السجن رغم كبر سنه، ليصبح رمزاً لصمود الكلمة أمام القمع.
والكثيرون فقدوا على الحواجز، بلا سبب سوى هويتهم الثورية، لتبقى ضحكات غابت وأصوات لم تعد تسمع شهادتها تكشف أن المقابر الجماعية لم تُصنع فقط من أجساد مجهولة، بل من ذاكرة وطنية مسلوبة إذ بلغ عددها أكثر من 130، تضم رفات ضحايا الإعدامات السرية والتعذيب المقابر نفسها ليست مجرد تراب، بل ذاكرة وطنية دامية تشكل جزءًا من تاريخ المجتمع السوري المعاصر، فراغ في الذاكرة وندبة في جسد الوطن.
ربط الماضي بالحاضر
وأخيراً، اليوم وبعد نصر الثورة، تتجلى الحقيقة في أن الحرية ليست مجرد حلم، بل مسؤولية للحفاظ على الذاكرة والهوية. والسوريون صمدوا، والضحايا لا يُنسون، يشكلون نسيجاً إنسانياً متماسكاً، يُعيد بناء وطنه على أساس الحق والكرامة.
انطلقت هتافات النصر في هذا اليوم العظيم، لتستمر أصواتهم في الإصرار على الحياة، لتروي التاريخ للأجيال القادمة، بصوت قوي وعاطفة لا تنكسر.