ثورة أون لاين: تسعة وثلاثون عاما كأنها يوم، بل كأنها ساعة لم تغادر القلب ولا الوجدان ابدا، وستبقى في شرايين الدم، وخفق القلب وسواد العيون، وكبرياء وشموخ الجباه.
تشرين الاول عام 1973 كنا في المدارس تلامذة لانعرف ماالذي دفع المدرسين الى ان يطلبوا منا ان نعود الى منازلنا بسرعة وألا نقف كثيرا في الازقة والزواريب والدروب.. عدنا ونحن فرحون لاننا تحررنا من عناء يوم دراسي.
القرى آنئذ لا كهرباء، ولا تلفزيونات.. فقط هو المذياع وما كاد الكثيرون منا يصلون من كروم التين حيث ننتشر لالتهام الاخضر واليابس قبل محطة البيت – حتى سمعنا الزغاريد تملأ القرية.. اصوات افراح..رجال يهرعون الى تحت اشجار التوت.. اللافت انهم كانوا يتوجهون الى من عنده مذياع.. لم يعد طعم التين ولا العنب مغريا أبداً لابد من الاستكشاف، فالرجال لديهم اعمالهم.. لماذا يتركونها ويهرعون الى اماكن عدة.. هرعنا بدورنا اليهم، لا احد يأبه لوجودنا ونحن الذين لم نكن لنتجرأ على الاقتراب من عوالمهم.. لكن ضحكاتهم كانت جديدة.. دعواتهم.. اللهم وفق جيشنا.. الله يعطيكم العافية ياشباب.. هه هيك الرجال.. كسرنا راسهم، غسلنا الهزيمة.. سوف نحرر الارض.. انها الحرب اذاً.. نعم انها حرب تشرين.. انها الولادة الجديدة.. المذياع سيد الموقف الكل يتحلقون حوله.. ازداد عدد الاجهزة المشتراة، وازداد عدد البطاريات الاحتياط لم ينم احد.. تأتينا اخبار الشهداء من المدن والقرى من الاهل والاقرباء والاصدقاء، وكأننا نسمع بخبر عرس وأفراح..نرى طائرة سورية تطارد طائرة اسرائيلية بالقرب من قريتنا حين حاولوا قصف المصفاة (بانياس) يفر الغراب الاسرائيلي مذعوراً امام نسورنا، يلقي بخزانات وقود.. تسقط في حقول الزيتون.. تصبح فيما بعد لعباً للاطفال..
هكذا تنبض الذاكرة بما عاشته في القرية، فكيف بالذين صنعوا الانتصارات.. كيف بالذين دونوا بمداد من امل والم انتصارات جنودنا.. جبل الشيخ في بيتي للأديبة السورية سهام ترجمان – سفر رائع يوثق بنبض القلب وقدسية الدم محطات من هذه الانتصارات..ومن هو الاقدر من كاتبة وزوجة بطل شهيد.. على فعل ذلك..
مجد بطولات جيشنا العربي السوري
من ابداعها الرائع جبل الشيخ في بيتي ، نستعيد ألق ومجد صفحات من بطولات جيشنا العربي السوري ولنترك ينبوعها الثري وبيانها الرائع يتدفق معطراً بروعة البطولة..
جبل الشيخ في بيتي
جبل الشيخ في غرفتي
جبل الشيخ في مدينتي
جبل الشيخ في دمشق ودمشق في جبل الشيخ!!
تبادل البطلان الاماكن، كل منهما عند الاخر في ايام الخطر يزداد الشوق وتلغى المسافات ويتم اللقاء الابدي.
صباح الاثنين 29 نيسان 1974 ومع خيوط الفجر الاولى ليوم من اعنف ايام جبل الشيخ ودمشق، يهبط البركان الثائر من قمته، يطير عبر التلال والسهول والقرى الخضراء على حصانه الاسطوري الابيض على جناح سرعة الضوء والبرق والشوق يدق بيده العربية دقات عنيفة عنف الرعد على زجاج نافذتي المتواضعة، يهزها من جذورها، يسحبني من نومي اليقظ وقلقي شبه النائم، يشدني من حبال نفسي، يشدني اليه وحده، وينتهي كل شيء ماعداه. جبل الشيخ، وصباح الاثنين الباكر. ألحانه العنيفة الهادرة تعبر الأثير وتسيطر عليَّ، تهز أعصاب نافذتي وبابي ونوافذ وأبواب بيوت أهل مدينتي دمشق، تبعث فيهم وهم في أسرتهم و نشوة الطرب الموجع ونداء البطل للأبطال.
بعصاه السحرية لوح لي قائد فرقة الأوركسترا العسكرية العربية المنتشرة على مدى النظر تحت قمة الجبل حتى حضن دمشق، تعزف منذ أكثر من خمسين يوماً سمفونية حربية عربية معاصرة. وأنا مغمضة العينين، في سرير الطمأنينة لمحت حركة العصا، واهتز كياني للحركة للدعوة. حركة العصا السحرية صوت مدو يهدر في وجودي امرأة عربية تعيش أياماً من أيام التحرير العربية المعاصرة.
صباح الاثنين. وازداد هدير الصوت – الحركة في ضميري. يناديني بقوة إلى احتمالين:
– إما الموت الكامل مع التجربة الإنسانية الفريدة «الشهادة في أرض المعركة».
– وإما الحياة مع المعاناة والمشاركة الحقيقية للمقاتلين لمعنى الأرض والوطن.
وكلا الأمرين شرف عظيم لي امرأة عربية تعيش عصر تحرير الأرض العربية من صليبيين جدد.
لم أتمكن، رغم مشاعر الخوف الغامضة في تركيبي، كوني امرأة ضعيفة، من مقاومة نداء العصا السحرية، في يد قائد فرقة لحن جبل الشيخ. وقررت أن أجلس على أرض المعركة على مقعد جبلي من مقاعد أفراد الفرقة، علَّ هذا القلم الناعم المدلل، يثور على نفسه، يسهم في رسم حركة صغيرة في القطعة الخالدة «لملحمة جبل الشيخ».
نحو جبل الشيخ انطلقت بسيارة عسكرية جيب غاز، برفقة زملاء الرحلة الخطرة الملازم الاول نمر حسين والمصور حسن مرشد والسائق الماهر مصطفى حسين الحسن، تودعنا بقلق بالغ عيون الزملاء في الادارة السياسية من العسكريين والمدنيين ، فهذا يوم لا ككل الايام ، وأصوات الانفجارات العنيفة برقيات تهديد لكل من يفكر في دخول أرض القطاع الشمالي.
الجبل يشدني والمدينة تفشل في تغيير قراري، سأسافر، وان كنت فعلا مواطنة محظوظة، سأرى الجبل عن قرب وسألتقي بالابطال وهم يحاربون العدو في يوم حار عنيف.
قد أعود وقد لاأعود. قد أعود كاتبة أو شهيدة.
قد لا أعود بكلمة أو صورة هذا ممكن جدا.
قد لاتسمح ضراوة المعارك هذا اليوم بلقاء المقاتلين والتحدث اليهم على الاطلاق فهم بشر كلمتهم تقال بطريقة مختلفة قد تكتب في صفحات التاريح الذهبية ولايهم ان ترجمت أفعالهم الى تحقيق مصور آني في مجلة اسبوعية أم لا.
هذا الاحتمال الذي حملته في حقيبة الرحلة لايهم، المهم أن أذهب اليهم انا مشدودة بقوة هائلة اليهم وهم بلا شك تشدهم قوتان: 1- الارض الوطن -2- المواطن ، العمق.
وأنا هم وهم أنا.
نحن هم ، كل منا عند الآخر كل منايعيش أو يموت من اجل الاخر.
انا على درب الجبهة اقفز داخل السيارة العسكرية السريعة أتمسك بالحديد حتى لاأطير من الباب الخفي المفتوح اللاباب أرى قمة جبل الشيخ البيضاء. افرح . اتعايش مع اصوات الانجارات واغازل بعيني واقبل بقلبي أزاهير البرية.
واخجل في داخلي من مشاعر الخوف الاكيدة من قنابل الحرب عندما تتجاوز سيارتنا سيارة عسكرية اخرى او باصا صغيرا انيقا يحمل في داخله فلاحي وفلاحات القرى الخضراء المحيطة بجبل الشيخ وكأنهم في نزهة.
يقصر الطريق، ويتضاءل حجم الخوف ويكبر الهدف في قلبي وعيني ، اتعجل الوصول كي اكسب كل لحظة من النهار .
نسيت خوفي على حياتي على طريق جبهتنا في القطاع الشمالي ، في سبيل ان ارصد سير حلة «خيط البطولة» اللانهائي في أفراد جيشنا العربي السوري الذين اقسموا على التحرير.
انا في مهمة من ادارتي ومن ذاتي ارصد قصة جبل الشيخ في يوم من ايام حرب الاستنزاف لتضاف الى مجموعة قصص البطولات المعجزة في مرتفعات الجولان منذ بداية حرب تشرين التحريرية وحتى اليوم فهل يفلح القلم!!؟
كيف هي الحرب في الجبل ؟؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يدفعني للوقوف عند بطولات جيشنا على هذا الجبل ومن أجله.
ياحسن ..!!ياحسن ..!!.. الصورة رائعة من هنا ياحسن..!! قف يامصطفى ..!! ومن سرعة مئة حتى الصفر تقف سيارتنا الخفيفة العزيزة فجأة ينزل حسن مرشد المصور الحربي الشجاع مع كاميراته وعدساته المقربة وافلامه الملونة ليلتقط ابدع لوحة رسمتها ريشة الاله لحقولنا الربيعية الخضراء وهي تتفتح تحت عين الجبل المهيب، اما عينه الاخرى فانها تدمع بصمت ترنو الى الابطال في الجبال والتلال والسهول والوديان ، تنتظر ان يمسحوا عنها الرمد الربيعي الذي اصابها بفعل الذبابة المسمومة والدخان الاسود وغبار الريح المعادية .
ويلتقط حسن الصورة وملامحه تبشرني بغلاف فريد لمجلتنا تنتصب عليه قامة جبل الشيخ الشاب أبدا ، وجبل الشيخ كما يراه قلبي« شاب عربي أسود الشعر وبشرة بيضاء ناصعة وعينان خضراوان مذهلتان وفكر متقد وعواطف حارة حرارة السائل البركاني الثائر».
نحن في مكان مامن جبهتنا عند جبل الشيخ تماما.
وانا ، وبشكل مفاجئ ، امرأة واقفة وجها لوجه امام قائد احد التشكيلات موظفة وصحفية وكاتبة مخلصة مغامرة من اجل الحقيقة تشهد المعركة على الطبيعة تقف في خط النار.
اذاً من هذا المكان تطير البرقيات الصوتية الى دمشق ليلا نهارا مؤكدة استمرار المعارك .
رحب بي الرجل ترحيباً طيبا بصوت مهذب هادئ النبرات ، واسارير وجهه المتفائل تحمل لنفسي البشارة بأننا نربح والعدو يخسر، تمنحني شعورا مؤكدا بأن زيارتي ليست مغامرة ولا معجزة بل هي أمر طبيعي جدا.
واحسست من تصرفات قائد القطاع الشمالي معي، بأنني اقوم بدور عادي غير خارق ولم يبق الا ان اسمع منه تأنيبا عن سبب تأخري بالذهاب الى الجبهة حتى الان .
وفرحت بهذا الشعور الضمني . اذاً لقد قبلني آمر القطاع جنديا مقاتلا بالقلم والكاميرا عندهم واحسست انني لست عبئا على القيادة والضباط في ساعات العمل الجدي.
وكان الرجل كريما ومنحني زمنا من وقته لم اكن احلم به.
وتحدثنا طويلا حول أبعاد المعركة العسكرية والسياسية ومنح بعثتنا شرف مرافقته الى المراصد الحديثة في الجبال، وكرمنا بدعوته بأسلوب الضيافة العربية واعتذرنا وقبل اعتذارنا بصعوبة من دعوة التشكيل للغداء .
وعند عودتنا لدمشق في السادسة مساء تذكرنا اننا لم نأكل طيلة النهار لقمة واحدة. في حمى الحرب لايفكر الانسان بالطعام اطلاقا.
ولا اذكر انني أكلت شيئا كان همي الاول ان اكسب الزمن واكسب الافكار واسجل الاحدث وصعدت معدتي الى عقلي الذي كان شرها جائعا يأكل بلا شبع.
وبدأت امسك طرف خيط من خيوط البطولة على امتداد جبهتنا السورية مع العدو تماما عند سفوح جبل الشيخ.
في البدء كان الحوار الهام الذي تبادلته مع قائد احد التشكيلات مع قائد القطاع الشمالي من الجبهة السورية العميد علي: في البداية اكتشفت النهاية واخذت الجواب.
السؤال… ياسيدي العميد.. وبعد…!!؟ معارك جبل الشيخ تمتد في اعماق الزمن والاصوات الهادرة شارات البطولة هنا تسكن ضمائر سكان دمشق وسكان القطر والوطن العربي وعواصم العالم تؤكد بأن المعركة لن تتوقف حتى اننا في دمشق جارتكم، عندما تتوقف اصوات القذائف لحظات نتساءل: لماذا توقفوا ..؟
ماالذي حدث..!!؟ فهم الناس لابعاد المعركة لاحدود له غدونا ياسيادة العميد كمن يسكن محطة للقطارات يصحو من نومه العميق عندما تتوقف عن الصفير والهدير فجأة غدونا لانشبع من هذه الصور المشرفة لنضال قواتنا المسلحة وطول نفسها وشدة عنادها.
السؤال: الى اين تسير معارك جبل الشيخ والجولان؟
ابتسم الرجل الهادئ الذي يتصف بأعصاب حديدية فحول المكان الذي يدور فيه الحوار تشتعل جهنم ارضية والقصف من الطرفين حامي الوطيس، ابتسم لطريقة السؤال وقال:
ليس من السهل تحديد مستقبل أو اتجاه المعارك في الجولان فالاحتمالات في هذا المجال كثيرة . ولكن الشيء الذي نستطيع ان نقوله بثقة ان من واجبنا التضحية بكل شيء من اجل تحرير اراضينا المغتصبة واسترداد الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني. من حقنا ومن واجبنا ان نقاتل الى ان تتحقق هذه الاهداف.
هدفنا هو التحرير
نحن الآن نقاتل بضراوة لتحقيق هدفنا في التحرير ولاحتلال«الشارة» من قبل العدو قصة لابد ان اوضح جوانبها بشكل واقعي لامجال للتحايل العاطفي فيه.
عند وقف اطلاق النار في حرب تشرين التحريرية كانت «الشارة» بيد العدو وقد هاجمت الوحدات الخاصة بأمر من القيادة «قمة الشارة» ولم تجد فيها احدا من العدو.
وفي 30/3/1974 كانت الشارة بيدنا. لكن لظروف الطقس الرديء التي ادت الى استشهاد عدد من أبطالنا من البرودة والتجمد امرت القيادة بانسحابنا من الشارة حرصا على حياة جنودنا الاعزاء حاول العدو الاستيلاء عليها عندما كنا فيها فأخفق . بعد انسحابنا احتلها العدو بتجهيزات خاصة تقاوم الطقس الرديء من حيث الملابس والمدافئ الكهربائية والتجهيز القوي.
اصرت القيادة على استعادة الموقع فوضعت خطة واستعيد التل الشرقي وصار بيدنا وتم الاحتلال تحت ظروف قاسية جدا: الحرارة 4 تحت الصفر . سرعة الرياح 15 كيلو مترا بالساعة ، درجة الرؤية لاتتعدى المترين هباب الثلج الدائم يضرب الانسان بضراوة صعوبة طيران الهيليوكوبتر ، فلا مجال للرؤية والانزال الارتفاع زهاء 3000م وعلى المقاتل ان يسير على الاقدام من 4-5 ساعات وعندما كان ضباطنا وجنودنا يحاولون استعمال الاسلحة واجهزة الهاتف كانوا يعجزون عن الضغط على الاجهزة بسبب البرد. واستشهد عدد من جنودنا بسبب البرد.
وتساءلت في سري بغضب: وكيف تمكن العدو من فتح طريقه الى القمة اذاً !؟
وأتاني الجواب منطقيا ومقنعا الارض من جانب العدو أسهل، ويمكن تأمين الحماية لها بشكل افضل وقد استفاد العدو من مزايا الارض الواقعة داخل الحدود اللبنانية.
وعندما وقع القتال على «قمة الشارة» أتى العدو اليها بشكل أمواج وسقط للعدو مالايقل عن 100 قتيل.
بحثت عن التفاؤل بالمستقبل لدى قائد القطاع الشمالي وكانت الاجابة مكثفة حاسمة:
نحن متفائلون بالمستقبل ان الشعب العربي معنا وقيادتنا متجاوبة وتنطق بما في نفوسنا . والعالم الحر بأسره معنا . وحتى امريكا قد صوتت ضد« اسرائيل» لانها رأت نفسها انعزلت عن العالم وادانت «اسرائيل» لأنها اعتدت على جنوب لبنان.
وتتساءلين باعجاب عن سر وقفة الجيش العربي السوري وحده امام «اسرائيل»!!؟؟ وقفنا ونقف وسنقف امامها لاننا اقوياء بالحق. ونحن على ثقة ان الشعب العربي معنا والشعوب الصديقة تقف الى جانبنا.
– ما أهم النقاط عندهم في جبل الشيخ والقطاع الشمالي؟
– تل شمس.. ومزرعة بيت جن.. والمرصد القديم.. والعقبات.. والشارة.
– ما أسماء القرى السورية الداخلة في جبهة القطاع الشمالي؟
– قلعة جندل.. عرنة.. عين البرج.. دربل.. بقعسم..
– وأي منها قرى جبل الشيخ؟
– عرنة، كريمة، دربل، بقعسم، قلعة جندل، وعين البرج.
– ماهي الاسلحة التي يعتمد عليها العدو في حربه في الجولان وجبل الشيخ؟
– دبابات.. مجنزرات.. رشاشات.. مدافع هاون.. من الاسلحة الغريبة التي يستعملها والمحرمة دوليا: القنابل الفوسفورية والعنقودية.. اما جيشنا فانه يستعمل الاسلحة الحديثة والمتطورة كافة.
استأذنت قائد التشكيل العميد علي بمقابلة عدد من أبطال الاسلحة التي قاتلت وتقاتل ليل نهار في جبهة جبل الشيخ، فأمر بأن يرافقنا ضابط من قيادة التشكيل برتبة مقدم، ونزور المواقع وهي في حالة اطلاق النار.
وكان خط الرحلة الخطرة بالنسبة لي، الحياة اليومية العادية الأثيرة بالنسبة لهم.
وكان لنا شرف مرافقة قائد القطاع الى نقطتي الاستطلاع والمراصد والمدفعية المضادة للطائرات في التلال العالية. واحسست بأهمية بالغة لهذه الحركة من القائد العسكري الكبير الذي منحني فرصة لقاء الاسلحة وهي في ادق لحظات العمليات الحربية. ومن منظار المرصد الحديث رأيت بعيني كيف تدور رحى الحرب وكيف تشتعل القمم في جحيم ضربات قواتنا المسلحة وطيراننا.
كان منظرا يبعث الرهبة والفرح والوهج في النفس منظر آمر التشكيل وهو يمر بسيارته عبر النقاط ويتلقى التحية العسكرية من هنا وهناك على اليسار وعلى اليمين. يعرفونه هنا جيداً، وهو انسان وقائد طيب وحكيم ومحبوب ولاحظت عطفه الكبير الظاهر على الرتب الصغيرة التي مرت عليها شهور منذ بدء حرب تشرين وهي ما زالت صامدة قوية مثابرة بلا كلل ولا ملل، على أعظم صورة من الانضباط العسكري. هنا، وفي ارض الحرب الحقيقية احترمت الحرب والمحاربين، فقد لمست الاستعداد الكامل للتضحية من كل مقاتل ومن مختلف الرتب. لمست هنا بشكل يلفت النظر الانضباط العسكري على أكمل صورة. وادركت أن الحرب فرن ضروري لانصهار العسكري وتخلصه من شوائب الحياة المدنية وحياة المكاتب البيروقراطية. هنا كل شيء في أعلى درجاته، هنا في ارض الحرب التي تنطلق فيها النيران من كل جانب، تعلمت أمورا كثيرة ومن خلال يوم واحد من اهم ايام حياتي.
مع جماعة الاستطلاع، هؤلاء الاعزاء الذين يغامرون بحياتهم في الخطوط الخلفية ما وراء الجبل وخط الجبهة وعلى ارض العدو في الليل وفي الفجر وفي عز النهار قضيت زمنا أستمع لقصص كأنها خرافات غير حقيقية وأساطير.
الملازم جميل: شاب كالنمر، صعد جبل الشيخ عدة مرات ورأى المنطقة وأخذ كل ما يتعلق بالمعلومات عن التل ورداءة الطقس. ولم يعد وحده عاد بشهداء، بجثث من شهدائنا ماتوا من شدة البرد. منهم الشهيد الجندي عقل أبو عباد، حتى لا يعيش اهله بدوامة «مفقود».
عاد به وبسلاحه ودفنه في القمة كبطل من ابطال القمة. لم يكن معه الا 20 عنصرا. قال لي بشجاعة تدعمها ابتسامة قوية: لا.. لا أخاف الموت.. وعندما تكون عناصري معي يزول عامل الخوف نهائيا. الخوف لا وجود له في عناصر الاستطلاع وإلا فقدت مبرر وجودها. وتذكرت زوجي الشهيد فؤاد محفوظ ضابط الاستطلاع وأخفيت دمعتي. تذكرت روحه الشجاعة ورفعت رأسي.
الملازم داوود هو في الحقيقة أول قائد مجموعة صعدت جبل الشيخ في 30/3/1974. تحدث بتواضع عن بطولات عناصر الاستطلاع، بينما قائد الفرقة يؤكد لي انهم ابطال حقيقيون لهم دور كبير في نجاح المعارك.
المجند سلام رزق من عرمان محافظة السويداء دخل خلف خطوطنا مع العدو أربع مرات في الليل والنهار، واستطاع ان يخبر عن طائرة هيلوكبتر معادية ستصعد الى القمة، وان يعود بذخيرة معادية من القمة.
والمجند علي الحجل من محافظة طرطوس دخل ايضا خلف الخطوط واستولى على بعض الذخائر والاسلحة وعاد بها مع زملائه سالمين.
وطارت بنا سيارة قائد الفرقة الى التلال المحاربة الواقعة تحت مراصد ومدفعية وطيران العدو. في كل ثانية من الممكن ان تتلقى السيارة قذيفة. الغريب أني عبئت بقوة عجيبة، وغار الخوف إلى حيث لاادري، وعيناي تحدقان في عيون مراصد العدو اللامرئية بوقاحة عجيبة وكأني أتحداهم ان يصيبونا. التحيات العسكرية من اعماق الحفر ومن على ظهر المدافع تنهال على اكبر رتبة عسكرية في القطاع تحملها السيارة التي سعدت بركوبها. من السيارة أقفز مع القائد وضباطه، ثم الى حفرة داخل الجبل أقفز ثانية ارتفاعا عاليا ساعدتني عليه الجزمة التي تسلحت بها ضد الجبال والشوك والخنادق والحفر.
يالسخريتي الآن من الكعب العالي وبورجوازية الجمال والاناقة!!
أنا داخل الحفرة الكبيرة أقف على طرفها بين مجموعة كبيرة من ضباط المرصد وجنوده وهم يحيطون بقائدهم الكبير ويشرحون له آخر الاخبار .
**
ومعارك جبل الشيخ..!!؟
معارك جبل الشيخ هي جزء من المعركة ككل فإن كان القتال قد تركز حول جبل الشيخ بشكل اوسع فذلك لايعني ان جبل الشيخ جزء منفصل عن كامل اراضينا التي نسعى لتحريرها . معارك جبل الشيخ لم تنته بعد في الحرب لانقول اليوم او غدا.
وماذا ايضا ..؟ اريد ان اسمع منك المزيد فأنت في الصورة اكثر مني واخاف ان تقصر اسئلتي عن الوصول الى الحقيقة انا على يقين انك ستطرح اسئلة افضل من أسئلتي لانك في أتون الحرب تتكلم من قلب الحقيقة . صحيح اننا نحارب معكم يوميا عن طريق آذاننا وقلوبنا وامنياتنا وهدوئنا وصبرنا وعملنا الدائب في الجبهة الداخلية، الا اننا قطعا لايمكن ان نصل الى مستوى الجهود الضخمة التي تبذلونها.
العدو يريد الهدوء كي يهضم الارض التي اخذها« ونصف القمة» التي استولى عليها . معه نصف قمة ومعنا نصف قمة وبيننا اعداد من الامتار وسوف نقاتل ولن نسمح له ان يهضم حجرا صغيرا ولا كرة صغيرة من ثلوج القمة. وستعود قمة جبل الشيخ قمة واحدة عربية سورية الهوية.
ماذا تقول..؟ يريد ان يهضم الارض..!!؟
نعم يقاوم بغرور احمق لانه يريد ان يهضم مأخذه من الارض.
اعجبني التعبير فهو جيد ومعبر أنتم رجال الجيش السوري تتقنون كل شيء حتى التعابير الادبية والصور الفنية انتم تدافعون عن اضنا وحضارتنا وتبنون ارضنا وحضارتنا كل فرد منكم مقدس لدينا . فهو قول وفعل . عاطفة وإرادة.
الارض لنا وطالما وقف عليها العدو فنحن معه في حرب. ان اي عمل هندسي او تحرك لتعزيز النقاط نعتبره خرقا لوقف اطلاق النار. نحن لانسمي حربنا استنزافا انها دفاع عن ارضنا كيف يكون العدوفي ارضنا ونسكت ونرضى لايمكن هذا امر مستحيل.
سيادة العميد هل لك ان تقيّم لي معركتنا من الناحية العسكرية:
اصبح جيشنا حاليا اقوى منه عندما دخل حرب السادس من تشرين التحريرية من ناحية القتال والسلاح والتدريب وضباطنا وجنودنا يتابعون التدريب تحت القصف.
المصدر: ثورة أون لاين- عن الثورة