ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحريرعلي قاسم:
شهدت الأيام القليلة الماضية حفلة مجون إعلامي غير مسبوقة، ووصلت سقوفاً لم تصلها من قبل، وبنَت في أغلب الأحيان أجنداتها على الافتراض الذي يداعب التمنيات أو في الحدّ الأدنى الذي يستجيب لها وسط ضخ من المشاهد ذات الطابع الهوليودي
الذي يعيد إلى الأذهان انطباعات الكذب الأولى والفبركات التي حاولت بعض مؤسسات الإعلام المنقرض أن تعيد حضورها عبره.
بغضّ النظر عن حدود ومساحات ما يجري فإن عودة فضائيات البترودولار إلى لصيغ التعاطي مع الأحداث من منطلق التمنيات يطرح الإشكالية الحقيقية في فهم موجبات ومسوغات العمل الإعلامي ومبرراته، وسط سيل من التهويل والمبالغة الجائرة التي اعتمدت في أهم صيغها على استباق الحدث والترويج له من منصّة غرف الاستخبارات، وبناء على معلوماتها كجزء من حالة التسويف والتضليل، أو في الحدّ الأدنى أن تكون صورة مصغرة عن الحالة الذهنية للذين يقفون خلفها.
التشريح الواقعي والمنظور لعملية التقاص بين الممكن والمتاح تدور في زوايا محكمة ذات أبعاد افتراضية مغرقة في نياتها وتبنّيها لصورة اتهامية مسبقة، ناتجة في كثير منها عن الرغبة في الضخّ خارج السياق، وصولاً إلى تشكيل «بروباغندا» ذات طابع جُرمي قائم على حالة الافتراء المرافقة للعمل بكل مستوياته ونتائجه، وتحقيق أعلى مستوى من الترويج الكاذب للواقع، بحيث تكون انعكاساً عملياً مباشراً لتمنيات تورَّمت لدى البعض ودخل في حالة من الخلط المزدوج بأبعاد واضحة.
عند هذا المستوى.. كان لا بدَّ من التوقف عند محدِّدات برَزت على المشهد العام الذي حكم حفلة المجون تلك تحت عناوين كادت أن تكون واحدة، وفي بعض الأحيان مستنسخة من تجارب سابقة، وفي بعضها الآخر كان مضافاً إليها شروحات أقرب إلى الذرائع المسبقة التي تكاد تقول إنها خارج الواقع، بل بعضها نسج كل ما يكفي لتقول إنها غير صحيحة، وليست دقيقة بدليل أنها كانت أكبر من كل الكذبات المتداولة في مثل هذه الظروف، وحتى الصور كانت مسروقة، فيما جاءت التحليلات والاستنتاجات مضاعفة في السرقة والافتراء والكذب.
لسنا بوارد الردّ على كثير مما قيل وسيقال وقد فاق كل أشكال التوقعات، بل في سياق استعراض النماذج الـمَرَضيّة التي تغزو إلى حدٍّ بعيد الكثير من مؤسسات الإعلام وباتت إلى حدٍّ كبير جزءاً من الفاقة والعوَز السياسي المتفشي في المنطقة وخارجها، وهو حكر في أغلبه على هذه النماذج من التسطيح وتغييب العقل والعمل على استثارة الغرائز.. وصولاً إلى استباحة قواعد العمل وأخلاقيات المهنة، والتي باتت منفلتة في منطقتنا، في حين كانت مجاراة المؤسسات الغربية لها محكومة بضوابط حالت دون تفشيها رغم ما فيها من كذب ونفاق، ولم تنزلق إلى حدود العبث وإطلاق المقولات وفق مفاهيم التمنيات، بقدر ما لعبت على استبدال المُستهلَك منها ورفده بقواعد إضافية من المحاكاة التي عجزت مؤسسات إعلام النفط عن تخطّيها وهي محكومة بمنظومة من الغيبية المفخخة، والتي انزلقت إلى حدود الهوَس الفكري والإعلامي الظلامي.
ما يدهش فعلاً أن التجارب تستنسخ بالنمط ذاته والمشهد عينه واللغو نفسه، وتحاول أن تعيد الأمور إلى المربع الأول الذي أتخمته بموبقات لم يعرفها تاريخ الإعلام، ونستطيع أن نجزم أنه لا يمكن لإعلام أن يقترفها تحت أي مسمى إلا ذلك الشكل الذي يشبه من يدافع عنه، ومن يدفع له ويموّله، ومن ينتظره ويعوّل عليه ويأخذ به، وهذا ليس اتهاماً، بل قرينة حاضرة واضحة، حيث المقارنة بين النتيجة والفعل تشبه العلاقة مع الإرهاب ذاته وتكاد تكون دليلاً دامغاً على ما ذهب إليه ويذهب وسط هذا الخواء في الإعلام والسياسة.
في كل الاتهامات التي كالتها وتكيلها بدْعة المجون تلك مجموعة من الحيثيات السياسية المعروفة، لكنها الحاضرة بقوة في نمط القبول أو الرفض لمعطيات الواقع، حيث تتحول بمجملها إلى حالة ببغائية تستنطق التمنيات وتقودها إلى وَهْم ينسج روايات وحكايات لا بد من أخذها بمُحدِّداتها وشروطها وملامح تعاطيها مع المشهد وحساباته، حيث النتيجة المحسومة التي كانت تراهن عليها تنطق بما جيَّرته وبما حاولت المداورة عليه، فالخيبة بشكلها ومضمونها ترتسم بوضوح في كل التفاصيل التي أرادت تغييبها، وفي مقدمتها الإفلاس السياسي والإعلامي، والعجز الذي تتكفل به تفاصيل الميدان رغم ما يراد له من تجيير كاذب ومَوْتور.
إعلام التمنيات في جولته الإضافية محاولة يائسة أو جرعة إنعاش في وقت فات فيه الاستدراك، وتأخر ولن تنفع فيها بعض المحاولات المتشرذمة التي تعتاش على مشاهد لا مكان لها في حسابات ومعادلات المواجهة، خصوصاً بعد أن ينقشع غبار المعركة وما تُحدثه من متغيّرات تقترب نهايتها.
a.ka667@yahoo.com