ثورة اون لاين -خالد الاشهب:
«“الجو خانق كقطعة رصاص على الصدر” !!
قالها يوماً الشاعر التركي ناظم حكمت، واصفاً عبرها الأجواء السياسية السائدة في تركيا يوم كانت الانقلابات العسكرية وقوانين الطوارئ لا تزال تعصف بتركيا ومجتمعها، فتبدد الاحلام بالحرية والديمقراطية،
وتحيل النهارات إلى كوابيس كما الليالي، فمن جهة أولى أحلام الحداثة والتطور، ومن الجهة الثانية أحلام الانتماء إلى الفضاءات الاوروبية .. وكما لو أن الامتداد الجغرافي المتواضع لاسطنبول التركية في البر الأوروبي بمثابة فيزا لتركيا كلها إلى تلك الفضاءات، أو كما لو أن الجسور على البوسفور جسور لتركيا كلها إليها .
بيد أن مطالعي الصحف ووسائل الإعلام التركية اليوم، يكتشفون وعلى الفور أكثر من سر بضربة “ مندل “ واحدة، أول هذه الأسرار أن أحلام الحرية والديمقراطية لم تكن سوى أضغاث أحلام لدى النخب التركية فحسب .. وفي مجتمع ظل عقوداً من السنين يناهض العلمنة والحداثة التي حاول مصطفى كمال اتاتورك إضفاءها على تركيا ولو بالقوة والسطوة الأمنية، فالعباءة العثمانية وخلافتها لم تغادر كواهل الأغلبية الساحقة من الأتراك الذين لم يتقبلوا العلمنة الاتاتوركية إلا بما لا يتعارض وعقائدهم الإسلامية، والذين مالبثوا الارتماء في الحضن الاخواني الأردوغاني عند أولى دعواته!
وثاني هذه الأسرار، أن الفضاء الأوروبي الذي لفظ تركيا والأتراك، وقيد استقبالها فيه طوال تلك العقود من العلمنة التي مست مؤسسات الدولة التركية ولم تمس العقل الاجتماعي التركي .. هذا الفضاء يواصل الابتعاد عن تركيا والأتراك كلما اقتربا منه خطوة . وأن المسألة أبعد من شروط سياسية واقتصادية توهم الأتراك يوماً أنها هي فقط “ الفيزا “ المطلوبة للعبور إلى أوروبا، وأن ثمة شرطاً ثقافياً غير معلن يدركه الأوروبيون ولا يدركه الأتراك، وسيكلفهم الخروج من جلودهم لو هم واصلوا البحث عن العباءة الأوروبية .. شأنهم في ذلك شأن الخليجيين الذين توهموا في المقابل أن مجرد الثروة و” الرشوة “ هي “ الفيزا “ القادرة على إدخالهم عوالم أميركا السحرية !!
ينقل الإعلام التركي، وبطريقة تشريحية، حقيقة العمق الاجتماعي والثقافي العمودي والأفقي الذي بلغته التيارات الدينية المتطرفة وفي مقدمتها جماعة “ الاخوان المسلمين “ في المجتمع التركي، خاصة خلال الحقبة الأردوغانية، ففي الوقت الذي فشلت فيه الحداثة والعلمنة في بلوغ تلك الأعماق في المجتمع التركي طوال أكثر من ثمانين سنة، نجحت الأخونة في بلوغها، أو بالأحرى نفض الغبار عنها، خلال بضع سنوات من حكم العدالة والتنمية وأردوغان، ورغم أن رهطاً واسعاً من هذا الإعلام يعتبر أن ذلك كان بمثابة خيانة لمبادىء الدولة التركية الحديثة التي أسس لها أتاتورك، إلا أن واقع الأمر يبدو كما لو أنه عودة الروح إلى الجسد؟
ومع أن “ الجو خانق كقطعة رصاص على الصدر “ اليوم في تركيا كما قال ناظم حكمت، إلا أن ما يجري على تلك الأرض لا يؤكد سوى حقيقة أن هذه هي تركيا الحقيقية وريثة الخلافة العثمانية المتخلفة .. ولن تكون غير ذلك؟؟