ثورة أون لاين – ديب علي حسن:
على مائدة السوريين تجتمع كل يوم آلاف الهموم والقضايا، تبدأ رحلتها بين المجتمعين، همساً، صوتاً، صراخاً، لكنها تعود لتصب في بوتقة الحوار…
السوريون هم أول من علّم العالم اللغة، واللغة حوار وتواصل…يوم أهدت أوغاريت البشرية أول أبجدية، وشدّ البحارة رحالهم الى ما وراء البحار كانوا يحاورون، يتواصلون، يتعاطون مع الانسان، مع الآخر كونه إنساناً وشريكاً…
هكذا بدأت عائلتنا السورية المتجذرة عمقاً حضارياً ومعرفياً وفلسفياً منذ عشرة آلاف ونيف…
قد يقول قائل: ومالها عائلتنا السورية اليوم تتحاور بلغة أخرى بوسائل أخرى، ومتى كنا كذلك.. هل حضارتنا أفرزت هذا العنف…؟!
بالتأكيد ليست حضارتنا، ولا ثقافتنا، ولا نتاجنا، ولا هويتنا لكنّ ما يحدث في العائلة الصغيرة بدءاً من المنزل يصل الأسرة الكبيرة، ويترك ندوبه وآثاره إن لم نحسن علاجه بالوقت نفسه.
لن نجلد أنفسنا كثيراً وندّعي أننا أهملنا الشرخ حتى أتسع على الراتق، لكننا نقول: إن عائلتنا السورية الكبيرة الانموذج والحقيقة كانت وستبقى مضرب المثل في الإلفة والمحبة والعطاء.. لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن مواطننا مجبول من الكرم والعطاء واللغة والانسانية.. ولكن ما الذي جعل بعضهم يتوحش ويفترس الانسانية التي فاخر بها:
لماذا لم ننتبه الى ما هو قادم، واختراقات صغيرة بدأت هنا وهناك واتسعت، وعمل الآخرين على زيادتها وتحطيم مناعة الجسد الذي أصابته.. يقولون في الأمثال: النار الكبيرة من شرر صغير… فكيف بهذا الشرر، وبهذه النار إذا كان الأعداء يتربصون ليروا دخانها وليلقوا بزيتهم وحطبهم ليزداد أتونها…
السوريون مقبلون على حوار واسع، شامل، يشابك الناس بعيد طرح قضاياهم، حوار لم ينقطع يوماً ما، لكنه الآن يأخذ شكلاً آخر، أمامه قضايا وطنية مصيرية، أمامه تحديات لا تحتمل انصاف الحلول، ولا التأجيل.
حوارنا يبدأ من الصباح العائلي، من كل أسرة في كل يوم عمل ثمة حوارات وآراء ونقاشات تبدأ ولا تنتهي، ليس الجميع على رأي واحد، لكنهم في العمل كيان متماسك، متفاعل، قادر على الإنجاز، يختلف هذا مع ذاك لكنهما لا يصلان الى الخلاف أبداً…
حوارنا العائلي كل صباح في منازلنا، يبدأ ويستمر طوال اليوم وعلى مراحل، تتناقض الآراء تتضارب، تتفاعل لكنّ المنزل ملاذنا جميعاً، بالتأكيد لن يكون أحد أفراد الأسرة خارجها إذا لم يعجبه رأي أخيه أو أبيه أو أمه، أو إذا ارتفعت الأصوات.. أنديرا غاندي» زعيمة الهند حين وصلت سدّة رئاسة الحكومة في الهند، سئلت كيف ستديرين أمور الهند بمئات ملايينها وأنت سيدة منزل…؟ لم تذهب بعيداً أبداً أجابت بكل ثقة: بعقلية سيدة المطبخ أو المنزل، سأرتب بلادي، كل شيء بمكانه، سأبعد كل ما ليس نظيفاً..
نتحاور كما لو أننا في منازلنا، هل نعمل بعقلية أنديرا غاندي.
حوارنا يبدأ من صباحات بيوتنا يتسع ليشمل جغرافية الوطن حدود القلوب، ورصانة العقول…
في حوار صباحي ضاق آفاقه في منزلنا الصغير.. تعلن زوجتي بنرفزة أنها تتمنى لو أني ذهبت الى العمل.. وتسألني: لماذا تعطل في المنزل.. لا لشيء عطلت فقط لازداد ثقافة من حوارك الصباحي.. يشتد أوار الحديث يتدخل ابني الذي يعلن أنه لايحب هذه النقاشات ولا هذه الحوارات التي تبدأ صاخبة حيناً وتنتهي هادئة، أو على العكس تماماً…
لكني لا أغادر المكان إلاّ بعد أن أسمع نعي شهيد في حارتنا.. ابن جيراننا على طهر أرض الوطن كان دمه عطراً وورداً وأملاً.. بالأمس حين كنا نعبر الطريق، أبطال بعمر الورد، زنابق وأشجار سنديان، وشموخ الحور، وعطر الياسمين، يحرسون أمننا وسلامتنا، وصلت بالقرب من وقوفهم: بكلمات هادئة، دافئة، ابتسامة على وجهه الى أين طريقك يا عم.. ؟! إلى المنزل.. بضع كلمات وأراد أن أمشي لكني نظرت ورائي لم أجد سيارة أخرى فتحدثت معه..
أردت أن أسمعه أكثر.. بكلمات بسيطة لا تفلسف، لا تذهب بعيداً، نحن بخير، بلدنا أمانة في أعناقنا، فقط كونوا أنتم بخير فنحن كذلك… أنتم هنا… أسأله: نحن بخير فماذا عنكم… ألم أقل لك: إننا بخير، ادعوا لنا…
أكثر من وقفة مع أبطال هم صنو قاسيون وعذوبة بردى، لم يتذمر أحد منهم، لم نر إلاّ ابتسامة ندى عائلتي السورية، كل يشتاق الى الآخر، يريده، يسأل عنه، يتمنى له السلامة، فيض مشاعر هو الطريق الى الخلاص، مشاعر أمل، وحب، وعلى المقلب الآخر ثمة من يدفع بسيل الأحقاد لتكون بركاناً يحرق الحاقد والمحقود عليه…
أيها السوريون أينما كنتم: أسرتنا الصغيرة هي طريق خلاصنا.. محبتنا، وفاؤنا لا نتمائنا الوطني ملاذنا..
كلنا نحاور حيناً بالصراخ، بالنزق لكن لنمسك زمام الأمر ولنتذكر أننا من علّمنا البشرية مفاتيح الحوار وآدابه ثمة وطن، ثمة مصير مشترك، إنجازات كانت بدمائنا، بقلوبنا بكل مقدراتنا … كيف يتم تدميرها واغتيالها..
هل سألنا أنفسنا: كيف لكيان غاضب (اسرائيل) مستوطنوه من أصقاع الأرض كافة لا يجمعهم أي أنتماء إلاّ العدوان.. كيف لهم أن يكونوا في المخاطر على رأي واحد.. كيف لهم أن يتجهوا الى غاية واحدة مع كل ما بينهم من احتراب لا يبدو على السطح… ونحن من نحن ندق عطراً «فنشم» بيننا..؟
أيها السوري..! نحن الدواء وفينا شيء من الداء… لكننا الدواء كلّه وإن كان مرّاً.. شكراً لك يا كبش الفدا يا من كنت تردد مقولة زميلنا: نضال زغبور.. كونوا بخير فنحن بخير.. نعم لنعلن شعار المرحلة القادمة أنت أخي.. أنت غدي مادمت بخير فأنا بخير سلام لعائلتنا السورية أينما كانت .. الوطن لنا وبنا يكبر وأوطاننا على رأي شاعرنا الكبير عمر أبي ريشة: لا تزدهي بحماة ندب..، لاتزدهي إلاّ بنا.
d.hasan09@gmail.com