ثورة أون لاين – ديب علي حسن:
حقيقة لا يماري فيها اثنان، ألا وهي أن الثابت الأكثر رسوخاً في هذا الوجود المادي، وحتى المعنوي، هي الأرض، الأرض التي تعني وطننا، بيتاً، حقلاً، رصيفاً، شارعاً، أرضك أنت حيث مسقط رأسك، وقصص الطفولة والحياة، الأرض التي ستؤوب إليها عائداً من على ترابها بكل ما فيه، إلى ثراها حيث يضمك، ومن لا يعرف طعم الأرض، لونها، عطرها بعد زخات المطر، لا يعرف للوجود معنى.
من لم يروها من عرقه، ودمه، من لم تأكل الأرض من يديه نتفاً، وتترك خطوطاً وردية على راحتيه، لهو خارج نعمة الفعل والعطاء، لا يعرف انتماء لأي شيء، من أجلها كل شيء يهون، ولها يهرق الدم، هي وعاء الوطن الأوسع والأجمل…
ولكن ترى أما زالت هكذا، كيف تبدو أرضنا، جبالنا، سهولنا، غاباتنا؟ أي محل نزلت عندنا؟ قد لا يكون المشهد ساراً ولا يحمل الكثير من الرضى، منذ أيام قيض لي أن أجوب براري قريتنا حيث مرتع الطفولة، وملاعب الصبا، مخزن الكثير من الدفء، ومساحات خضراء، صيفاً شتاء، هنا كروم الذرة، والسمسم، وقبلها القمح الذهبي، وعلى ضفاف النهر كروم العنب والتفاح، وأشجار الزيتون.
صباحاً وقبيل السادسة كنت أغذ السير نحو كروم الزيتون، يا لهول ما أرى: دثرت ملامح الطريق، (هشير) يسد كل منافذ السير، أحراش تطاولت حتى تسامقت فوق الزيتون، بقايا ركام من حجارة كان الآباء ومن قبلهم الأجداد قد اقتلعوها، وبنوا جدراناً تمسك التربة، ضاعت بي السبل إلى كرم زيتون، هو في القلب والعين، حملت أمي على كتفيها منذ نصف قرن كما تروي لنا، حملت الماء وقرم الزيتون، غرسها أبي، وغدت حقلاً رائعاً…
مضى الغارس، وبقي الكرم مهملاً، منسياً على تخوم البراري، قلت في نفسي: واحد من كروم قريتنا لا يضير أن يهمل، غدوت إلى غيره، حقول (الهشير) الهشيم لا تترك منفذاً لقدم، لا تدري بأي لحظة تقفز أمامك دابة متوحشة، أفعى، ضباع…
قرب الغابة الخالدة، المشهد الخلاب يعود بي إلى زمن لطفولة سنجاب يقفز متباهياً بما يفعل، بلمح البصر كان قطع نصف مساحة الغابة، تراءى لي مشهد من كانوا قبل عقود من الزمن، هنا عشرات الرجال في حزيران، مستلقون تحت الأشجار في استراحة الظهيرة، وقد أرهقتهم حقول القمح حصاداً…
غابت الحقول، ضاعت الخطا، حتى دروب وقع الأقدام اختفت، لا شيء إلا الوحشة القاتلة وصمت مريب، وحدها مقبرة الشهداء كانت سماء تنير هذا البورن ويطفح السؤال: لماذا غدت أرضنا بوراً؟
من الذي جعلنا أمواتاً ونحن على قيد الحياة، أليس موت الأرض كارثة كبرى… أنظر إلى غابات خضراء على مد النظر وأسال: لماذا لم يقتنع مسؤولون أنها بحاجة إلى طرقات زراعية؟ ماذا لو أن حريقاً نشب فيها، كان الأمر سهلاً وهيناً، وكان بالإمكان شق آلاف الكيلو مترات، لكن النكران والجحود سيد الموقف…
ألم يقل أجدادنا (أرضك عرضك) وهل كواسر ووحوش العالم التي تنهش لحمنا ودمنا، أتت لغير الاستيلاء على أرضنا، سلام لكل جرف صخر، وحبة تراب في سوريتنا، نحن (البور) اليباب، ولا اخضلال لنا حتى نعود إلى أرضنا، وقد رواها الدم الزكي الطهر، من جبل العرب، إلى كل بقعة من وطننا، طوبى من أمطروا دماءهم لتروى.