تلك الشابة المتألقة بالعلم، والجمال كانت تحدثني بانفتاح، وجرأة عن أخيها الصغير الذي رافقته متلازمة (داون) منذ أن فتح عينيه للحياة. ليس في تلك المتلازمة ما هو غير مألوف فقد رافقت كثيراً من الصغار، وستظل تفعل.. لكن ما فاجأني أنها كانت تتناول الأمر بحيادية كاملة، وبتفاؤل هو أقرب الى الفرح بأن الله قد وهبها أخاً.. وبثقة تامة من إمكانات يحملها هذا الصغير بما يجعله متميزاً بطريقة ما.
ولقناعتي بأن الرعاية قد تهزم النقص لتحوله إلى اختلاف، رحت أنصت إليها باهتمام وهي تستعرض أمامي صوراً له، وتحكي لي عن علاقتها به، وقصتها معه، وتجربتها الخاصة من خلاله.. وكيف أنها لم تتردد في أن تضع تفاصيل هذه التجربة المختلفة على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي ليس بهدف الاستعراض بالطبع بل لغاية هي أعمق، وأنبل لعلها تشجع غيرها على أن يخطوا خطاها.. ولأنها تريد أن تقول لمن هم في حال مثل حالها أن ما يختلف به مثل هؤلاء الصغار قد يتحول الى نعمة بدل أن يكون نقمة.. فلا تغلقوا أيها الناس دون الأمل أبوابكم، ولا تحاولوا أن تخفوا مَنْ ولدوا هكذا عن أعين المجتمع.. لأن في ذلك جريمة بحقهم.
استوقفني حديثها، وأثار اهتمامي في آن هذا التصالح مع الذات، ومع الحياة نفسها التي تتنوع محطاتها بمعدل أعدادنا كبشر، وكمّ ثقافاتنا، وإمكاناتنا. فقد اعتدنا في مجتمعاتنا الشرقية عموماً على ممارسات، ومبادرات تختلف عن تلك التي تسود في الغرب، وهذا بحد ذاته يرسخ نوعاً من التباين في وجهات النظر يتبعه تباين في السلوك.. فبينما يقوم الفرد الشرقي بحجب مثل هؤلاء الأطفال عن أعين الغرباء خجلاً من المجتمع، وكأن المسؤولية تقع على عاتق من أنجب بأن يأتوا إلى الحياة على هذه الصورة، وليس الأمر من صنع مورثات شاءت لها الأقدار أن تكون زائدة الأعداد.. أقول في الوقت ذاته لا يتردد بالمقابل أهل الغرب في أن يسلطوا الانتباه إلى أن أفراداً صغاراً هم ليسوا كباقي الصغار، ولهذا فهم يستحقون من الاهتمام ما هو أكبر.. ومن الرعاية ما هو أكثر.. وعلى مجتمعاتهم أن تحترم خصوصية ما هم عليه لا أن تحجبهم، أو تجعلهم في تجمعات منعزلة لا يرون فيها إلا مَنْ هم في حال مثل حالهم.. بل إن الجو الأسري المتفهم والمتقبل لوجودهم، والبيئة الاجتماعية الملائمة التي تعمل على المساعدة والتأهيل دون تمييز، أو إساءة ما يجعل طفل متلازمة (داون) أقرب الى الطبيعي منه الى المصاب، ويحقق له حياة أفضل.
وما دام الطب الحديث، وعلم الوراثة قد رصدا، بفضل التقدم العلمي، بالدرس والتحليل هذه الظواهر، أو الأمراض بكل تفاصيلها، وأسبابها فقد وجدا لها بالتالي طرقاً صحيحة للتعامل معها من قِبل الأسرة، والمجتمع، وسبلاً دقيقة للتخفيف من آثارها مادام واقع الأمر قد حُسم منذ اللحظة الأولى، ولا سبيل لتنقية المورثات، أو تعديلها، أو نفي هذا الواقع، أو تغييره لدى مَنْ ولدوا هكذا.
هذا واحد من الأمور التي يظهر من خلالها الاختلاف بيين في النظرة، والسلوك العملي بين شرق، وغرب.. فلطالما اعتبر أهل الشرق حادث الموت على أنه فاجعة الفواجع، ومصدر الألم واللوعة بسبب الفراق مهما حثتنا الأديان على ألا نفعل.. بينما يعتبره الغرب حادثاً طبيعياً يتعرض له كل البشر في مواقيت مختلفة.. وعلى هذا الأساس فهم لا يضللون صغارهم، مهما صغرت أعمارهم، بإجابات غامضة، ومغلقة إذا ما سألوا، كمن يقفل عين الآخر عن أن ترى بل إنهم يصارحونهم بحقائق الحياة مهما قست، أو كانت مفجعة وأهمها الموت، حتى لا يصدمهم واقعها في مستقبل أيامهم، وحتى لا تكون المفاجآت سبباً لتعثر الخطوات.
لقد نبهتني تلك الشابة التي تعاملت بذكاء مع مشكلة أخيها الصغير على أنه مختلف لا مريض، أن مرحلة من الانفتاح نحو الآخر بدأنا نعيها جيداً، وأن فضاء الافتراض يصلح بالفعل لأن يكون نافذة لأفكار جديدة، وأن المبادرات الجيدة تبدأ بخطوة جريئة.
إضاءات
لينـا كيــلاني
التاريخ: الجمعة 12-10-2018
رقم العدد : 16809