بعدما ظهر ما أصبح يسمى بالتزييف العميق بدأنا نشكك في كل ما نراه، أو نسمعه على الشاشات الصغيرة من هواتف وحواسيب، وقد أصبح بمقدور تلك البرامج المتطورة جداً للتزييف أن تخدعنا بدرجة كبيرة حتى تجعلنا نصدق فعلاً ما نرى دون أن يتبادر إلى الأذهان أن كل ذلك ليس أكثر من تزوير في تزوير..
إذ باستطاعة تلك البرامج الحديثة أن تستبدل وجه شخص بوجه شخص آخر بكل إيماءاته، وتعابيره، وأن تُحل صوتاً بدل آخر بكل اهتزازات نبرته، وانفعالاتها.. تزييف يكاد لا يميزه صاحبه.. فماذا سنصدق إذن.. وماذا سنكذب بعد كل هذا؟.. وأين أصبحت تقع الحقيقة؟.. بل كيف بإمكاننا أن نميز هذا عن ذاك وقد تداخلت الصور، والأصوات؟
قبل أن تظهر تلك البرامج الخدّاعة التي تتحكم في الصورة، كما في الحركة، والصوت، أقول قبل ذلك كنا نصدق كل ما نراه على الشاشة، أو على صفحات المجلات، والصحف.. وقبل أن تكون هناك مواقع إلكترونية كانت الإشاعة محدودة الانتشار، وتكاد لا تتجاوز نطاق مجتمعاتها الصغيرة التي تنبثق فيها، وما تلبث أن تحترق، وتنطفئ مثل سهم ناري.. أما الآن وقد تطورت برامج التزييف ووسائلها فقد أصبح للإشاعة مساراً جديداً يكاد يسري في كل مكان، وشكلاً متطوراً تعززه الصورة الزائفة، أو المقطع المصور على شكل فيلم قصير، وأصبح الناس بالتالي يروجون من خلال الصفحات الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعية لأخبار، وأفكار لا تملك مصداقيتها بحال من الأحوال.. حتى ولو كانت قد تورط أشخاصاً، أو قد تخلق أزماتٍ بسبب ما يُرى، ويُسمع.. لكن هناك دوماً مَنْ يصدق، ولو كان إلى جواره مَنْ يكذب.
وبعد أن تفاقمت تلك الظواهر، وأصبحت تجمعها شبكة اجتماعية عالمية باتوا يعقدون لأجلها المنتديات العالمية أيضاً، والهدف من تلك المؤتمرات، والمنتديات هو دراسة تحديات الوصول إلى المعلومات الصحيحة، وإيجاد السبل لمواجهة الأخبار الزائفة، كما آخر منتدى عالمي عقد مؤخراً لهذا الغرض، وبمشاركة مئات من الصحفيين، والإعلاميين.. مطالِبين من يعملون في حقل الصحافة والإعلام أن يتحروا الدقة، والموضوعية فيما يرصدونه من أخبار ذلك لأن للإعلام بكل أشكاله دوره الخطير، كما للصحافة مصداقيتها، وباعتبارها هي المصدر الأقدر على نقل الأخبار من هنا إلى هناك، ونشرها على كل نطاق لذلك فإن المطالبة بالدقة والمصداقية يشكلان حجر أساس في اللعبة الإعلامية حتى لا تتحول إلى لعبة للإيهام والتضليل.
لكن الأمر لم يعد يقف عند هذا الحد بل إن المتلقي الذي من حقه أن يسأل أين الحقيقة؟ أصبح مشاركاً فيه بقدر من المسؤولية مهما كان ضئيلاً، وعليه أن يدرك، وأن يفرّق بين المزيف وما هو حقيقي، وألا يكون من السذاجة بحيث يصدق كل ما يرد إليه، وألا تكون له عين فاحصة تدقق، وتتحقق من كل ما تراه ما دامت السيطرة على ما يطلقون عليه بـ (التزييف العميق) قد غدت شبه مستحيلة، وبرامجه تخترق المعلومات وقد غدا الحصول عليها سهلاً، ومتاحاً لكل من يسأل، أو يبحث.
إلا أن الفرز والتدقيق للأخبار التي ترد ليس بالأمر الهين في الوقت ذاته، أو أنه متاح لعامة الناس، أو أن أي أحد يستطيع أن يقوم به لأنه في محصلة الأمر هو مرهون بثقافة المتلقي، ومستواه المعرفي، والمعلومة التي يمتلكها أساساً والتي قد تسعفه في دحض كذب الأخبار، ونفي إشاعات لا هدف منها سوى تعكير صفو الناس، وزجهم في أوضاع تربك، ولا تسعف. ولو أن المبرمج لم ينسَ أن يخرج لجمهوره ببرامج خاصة تساعد على فرز الحقيقي من المزيف خبراً كان، أم موقعاً إلكترونياً يتبنى ما هو زائف.
إنه ثوب الحقيقة المزيف الذي يخاط وفق خطوط محددة يُراد لها أن تكون مضللة.. ومع ذلك تبقى هناك مواقع إلكترونية موثوقة، ومنابر ثقافية لا تقبل تضليل جمهورها.
إضاءات
لينـا كيــلاني
التاريخ: الخميس 22-11-2018
الرقم: 16842