لا أدري إن كان السياب شاعر النبوءة بأنشودة المطر , قد تدثر بالوهم حين داهمه صقيع العمر بردا , جاءه مطرا غزيرا , ويزرع العراق وتخضل البلاد , يهطل المطر , تحصد الغلال , ويبقى العراق جائعا لتشبع الغربان والبوم , وكل عام يورق العراق , والمأساة ذاتها، لا تبديل ولا تغيير , يالها من مفارقة مرة حد الفجيعة ,
من أنشودة مطره إلى شتائنا القارس, ليس مرورا بشتاء سعيد حورانية , لكنه اليوم , أكثر وأبعد من فصل , ومن برد فيزيائي , برد وجودي , يمتد دهرا , لا , بل كل يوم فيه يعني عمرا.
صيفنا بارد , قارس كما النخر في العظام , ربيعنا مثلج بصقيع الجليد , خريفنا يلفح الشجر وتهب نيران تأكل الأخضر كله , ويبقى البرد ساريا كموجة دهرية , يعبر الشرايين من رؤى العيون , ليمضي مستقرا في أعماق القلب , وما أشد ألم قلب لايعرف إلا الصقيع , هل يزهر أملا, وعدا, عطاء..
في الشتاء الدهري الذي يصيبنا , نبحث عمن نلوذ به , وهل من ملاذ غير حضن أم ووطن ؟ آه , ما أصعب ألا تجد ملاذا , تبحث وتبحث من حضن الوجود الأول , إلى وطن ملاذك , هو بيتك , أهلك , سماؤك , ماؤك , يومك , غدك , هو نبضك , لأنك أنت ذرة من ترابه , كما كانوا الذين سبقوك , وكما حال من سيأتي معك وبعدك , وطن العين بعد فراقها (لا ساكنا ألفت ولا سكنا).
اغتراب الجسد , ليس بذي ألم , كما اغتراب الروح , كما الصدأ الذي يجعلك تهرم وأنت في أول العمر , ويدب الصقيع يشغل روحك , يمضي مع كل خلية في جسدك , تظن نفسك وحيدا بهذا الصقيع , لكن ثمة آلافا , بل قل ملايين , يعبرونه , يتحدثون عنه , ليصبح المجموع محيطا من الجليد , بل كتلا ربما تزحف إلى أحد القطبين , لترمم ما يذوب هناك , لكن ثمة نداء عميقا يصرخ , يكبر , يعلو: هنا جذورنا , تربتنا , ماؤنا , وعدنا , قهرنا , حزننا , حقولنا , آلام مخلصينا , هنا ما يدعونا لأن نحمل جراحا أكبر من خرائط الروح والجسد.
نقول : جمر يتقد تحت هذا الصقيع , لابد أنه سيمتد وتورق بنا الدروب , نمضي بالحلم , نعيشه , نطعمه قلوبنا الممزقة , لكنه يمضي بعيدا , يعبر الدفء إلى مكان آخر , لا تعرف كيف ضل طريقه , من الذي جعله هناك , وتصرخ: يا وطني: أشعر بالبرد…
أشعر أننا على قارعة النسيان , أننا مهمشون , ضائعون , تائهون , لولا الدم الطهر الذي افتدى الوطن لقلنا غير ذلك كثير , يا وطني: نشعر بالبرد وغيرنا يتدثر بكل ما يحلو له , يا وطني: من يشعرون بالدفء عنا , ماذا عنهم , ما أحوالهم , لماذا يكدسون المال والنضار, لمن يدخرونها؟
ما نفع ذلك كله , ونحن في صقيع الوطن , يشعلون نارا عنك , يأكلون عنك , يفرحون عنك , كل دروب الحياة النضرة يعيشونها عنك,أنت كبش الفداء, ما أعمق الجرح , ما أبعد الغور..
لكن نداء الحنين يقول: (وحياة عينك راجعة) وطني سلام لك , لحماتك , لنبضك , لتكن الروح والجسد صقيعا هنا , ولا دفئا بأي مكان , هنا نبرد , نجوع ونعرى , نموت ونحيا , ونصيح: يالنشوة البرد , ثمة زنبقة تنمو , وردة من دمنا نشعر بالبرد, فمن يدثرنا..؟
معاً على الطريق
ديب علي حسن
التاريخ: الخميس 22-11-2018
الرقم: 16842