يتوجب أن ننجو من شرك التجزئة وبمصطلح أكثر دقة من شرك التجزيء، ذلك أن إرادة البشر في مثل هذا السياق هي التي تصوغ مقومات القبول أو الرفض لمنطق التجزئة، والتجزيء في المراحل الزمنية هو كالتجزيء في عوامل التأسيس والمواقف الثابتة، هذه فكرة تبدو نظرية بحتة، ولكنها في العمق هي قاعدة سياسية والتطبيقات واضحة.
فهناك اليوم من يريد أن يجري التجزئة على السياسات الأميركية بحيث نرى أن ادعاءات أميركا في محاربة الإرهاب أو تصريحات مسؤوليها بالانسحاب من سورية هي لقطة خارج نطاق أصول وفصول الامبريالية الأميركية، ونحن نعلم وهذا هو المنطق السليم أن أميركا عدوة وهي تحتل أجزاء من وطننا وعدوة وهي تنهزم وتتحدث عن الانسحاب من الأراضي السورية لم يتغير في بنيتها ولا في سياساتها شيء، وكل أنماط سلوكها هي تعبير عن أعماقها وعن ذاتها المتصلبة ولاسيما في مادتين اثنتين منذ نشأتها وحتى الآن، الولاء المطلق إلى درجة العضوية للحركة الصهيونية وللكيان الإسرائيلي والعداء المطلق كمادة ثانية للعرب وقضايا العرب وعلى سبيل المثال، فإن أميركا موجودة بكل ثقلها في هذه العدوانات الإسرائيلية المتكررة على الوطن السوري، موجودة بالتخطيط وبالتنفيذ وبالسلاح والصواريخ والطائرات المتطورة وموجودة بكل النتائج والتفاعلات المبنية على هذا العدوان.
ذلك أمر حيوي مهم حتى لا نقع في مطب التجزئة ما بين أميركا والكيان الإسرائيلي، وحتى لا نعتقد بأن هذا الكيان الصهيوني قوي إلى هذه الدرجة التي يتحدى فيها العالم كله ويرفس بلا تردد كل الاتفاقات والموافقات التي ما زلنا نعتمدها أو نعتمد عليها والتي لها تطبيقات مع روسيا الاتحادية الصديقة ومع أطراف أخرى، ونعود للأصل هذه هي أميركا على مدى خمسة وأربعين رئيساً عبر خطوط راسخة لا تتبدل، ويترك هامش فحسب للكاريزما الخاصة بكل رئيس، ويترك في هذا الهامش حيز للمتبدلات والأحوال التي تطرأ على المنطقة وعلى العالم، وبوسعنا أن نقول هناك سياسات أميركية ثابتة نحونا وهناك سياسيون على صيغة رؤساء وأحزاب تتناوب على هذه القاعدة الأميركية، وبالتالي فلا يحق لنا أو لغيرنا أن يقول إن هناك فرقاً ما بين دونالد ترامب الرئيس الحالي والإشكالي وما بين دوايت أيزنهاور ولا فرق بين باراك أوباما وريغن الذي مات.
هذه الحقيقة هي التي تستجمع فينا مصادر التفكير والبناء السياسي والعسكري وتستطيع أن تنتج لنا رؤية موحدة نعرف كيف نتعامل من خلالها مع هذا الوحشي الأميركي، وفي المنحى النوعي الثاني في هذا السياق لابد أن نتخلص من سطوة الجزء في تحليل الكل، بحيث ننجر إلى وجود تباينات تصل إلى حد الصراع ما بين أميركا ترامب وتركيا أردوغان، وهذا المدى في الخلل هو الذي تحاول أنماط من المروجين والمروجات السياسية دائمة الحضور في المحيط السوري عبر إعلام الصراعات والتحليل السياسي الذي يداهمنا من خارج سورية ومن جوارها ثم نعتقد بأن هذه هي الحقيقة في الفصل ما بين أميركا وتركيا، وأعتقد جازماً بأنه من حقنا في سورية وفي مناهج تعبيرنا عن ذاتنا ألا نؤخد بالبهرجة والكلام المنمق والمصطلحات البلاغية التي يطلقها أولئك المتفرغون والمحترفون للكلام دون المواقف بجوارنا أو في أقطار أخرى.
هذا المنحى بتكامله العضوي مع المنحى الأول والأهم في الثوابت الأميركية هو الذي يعرفنا على ذاتنا أولاً، فنعرف عدونا من صديقنا ونبني وجودنا على الثوابت وليس على المتغيرات وملاحقة التصريحات التي لا نجيدها في سورية، لكن هناك من خارج سورية من اعتنق هذه التقافزات، ثم استدعيناه في إعلامنا ليطلق ثقافة التقافز فتمحو ثقافة الوطن السوري الذي يعرف كيف يعزز الثوابت ويستوعب بأداء حيوي كل ما يطرأ ويتداخل مع معتقداتنا ومواقفنا الأساسية، إن الرأي العام الوطني ليس مساحة متروكة لكي يتقيأ فيها من يريد ومن يجيد الثرثرة، ومن لم يذق طعم المعاناة ولذة الشهادة والشهداء، والعالم كله الآن يتفتح وينفتح على الأداء الوطني السوري الذي يجمع في محاوره منبع الحضارة والسلام ورفض الحروب والتدمير، كل ذلك إلى تأسيس الثبات والقوة في كل المجالات، حتى لقد صارت سورية عنواناً في أنها تقاتل بشرف وتحاور بشرف، وفي الجوهر والعمق هي ذاتها، ولهذا المعنى تعتمد سورية الآن مبدأ إنجاز النصر النهائي كمقدمات كبرى والحفاظ على منتجات وضرورات هذا النصر، لأن الحفاظ على النصر وعلى اللحظة الانبعاثية المتوهجة يعادل بل يتقدم أحياناً على النصر ومقوماته، وهذا التوجه الصعب والإرادي يتطلب أن نعد له عبر العقول الثابتة والقلوب الحية والخبرات التي تتراكم من خلال قدسية الشهادة والشهداء.
إن المسألة لا تتصل بما نريد نحن، ولكنها تتصل أيضاً بما نريده وهو حق وعدل ومشروعية من الآخرين، ومازلت أعتقد بأن المنهج الأساسي في ذلك يتمثل في أن الوطن لمن يحميه ولمن يبنيه، كما أطلق هذه القاعدة الرئيس القائد بشار الأسد وفي بناء المنظور الشامل يبقى الوطن السوري بأبنائه وتفاعلاته هو الأساس وهو الذي يعلي المداميك يومياً.
د: أحمد الحاج علي
التاريخ: الاثنين 14-1-2019
الرقم: 16884