كلما استعدنا في الذاكرة التاريخ القديم، والحديث، والمعاصر لأمتنا العربية تستوقفنا الذاكرة عند الكثير من الحوادث المتكررة التي أصابت العرب، ولم يستفد العقل العربي مما جرى، ويتصرف على تحصين مناعته الوطنية، والقومية وفقاً لمقتضياته، بل يتكرر الحدث ويفعل فعله في الداخل العربي، أو في المحيط الذي للعرب تماس مباشر معه، وأيديهم فارغة من أخذ العبرة، والاعتبار جرياً على قول الشاعر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ ولم يسْمر بمكّة سامر، وهذه الصفة المزمنة عند أمتنا العربية حَرَمتها من استلهام ماضيها بعقل نقدي جريء، وكذلك من معالجة حاضرها بروحية علمية مستبصرة، ومتنورة ومن رسم ملامح مستقبلها بإرادة الطموح المتطلّع إلى الأفضل والمحدد لخارطة الطريق بما يتوافق مع سيادته، وحقه في تقرير مصيره وقوته في عدم التنازل عن حقوقه.
ومع أننا -في التفكير المنهجي الموضوعي- لن نغفل أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي للعرب جعلهم، ويجعلهم دوماً في خضم الحركة التاريخية للغرب والشرق على حدّ سواء، فلا الغرب يتنازل عن مجاله الحيوي الذي لا بد أن يطال جغرافية العرب وكذلك الشرق الذي له المصالح ذاتها وقد كنّا يوماً على طريق الحرير، إلا أن هذا الموقع ليس شرطاً أن يضعنا دوماً في عين المؤامرة لنبقى أسرى مَنْ لا يترك التآمر، ومكبّلي الهمة في النهوض بإرادة وطنية صريحة، وذهن علماني مفتوح.
لو نظرنا في تواريخ الأمم لتوقفنا عند الكثير من أمم الأرض التي وقعت في الكبوة غير مرّة، لكنها استطاعت أن تنهض منها وتشكل فضاءها الخاص، وتفرض هويتها، وشخصيتها، فما بال أمتنا لا تقرأ التاريخ قراءة المحلل الناقد العالم الذي يختصر الطريق بعدم السماح لقوانين الرّجعة أو الظلامية بالعودة، ولعدم السماح للعوامل الخارجية بأن تتحدى العوامل الداخلية وتفرض عليها مشاريعها، وتطلّعاتها؟ ونستطيع من النصف الثاني من القرن الماضي حتى اليوم أن نعطي أكثر من مثال على تكرار الحدث التآمري علينا دون أن نتذكر أن الذي سبقه كان بالآلية ذاتها.
منذ احتلال فلسطين من قبل الصهاينة عام 1948 وُجد من العرب من يجتمعون مع القادة الصهاينة ويتآمرون معهم على عروبة فلسطين، ومنذ العدوان الذي ما زال قائماً علينا من احتلال فلسطين وُجد من يسعى لتطبيع العلاقة مع العدو الصهيوني ضارباً عرض الحائط بحقوق أمته، ومصالحها العليا، وحين قامت الوحدة بين سورية ومصر في شباط 1958م وُجد من الأعراب من يتآمر عليها كيلا تتسع وتضم الأقطار العربية الأخرى فتقوم دولة الأمة أسوة ببقية أمم الأرض، وهذا مرفوض في الأجندة الغربية والصهيونية.
وفي عدوان الخامس من حزيران 1967م الصهيوني المدعوم من أوروبا وأميركا وجد من الأعراب من يؤيد العدوان لكي يسقط من النظام العربي الرسمي كل من سورية، ومصر، وفي حروب جماعة الأخوان المسلمين على النظام العروبي في سورية في غمرة الثمانينات من القرن الماضي ولا سيما بعد أن كانت سورية تقود جبهة الصمود والتصدي ضد كامب ديفيد، ولمحاولات تصفية القضية الفلسطينية، وضياع الحقوق التاريخية للعرب في فلسطين وُجد من يدعمهم ويقف معهم ضد سورية.
ولا زلنا نتذكر كيف تم دفع نظام صدام حسين لمحاربة الدولة الإسلامية الوليدة في إيران مع أن إيران في نظام الشاه كانت إسرائيل الثانية في شرق العرب، ومع هذا حين زال الشاه وأغلقت سفارة إسرائيل وأصبح مكانها سفارة لفلسطين في طهران لم ينعكس هذا السلوك إيجاباً في العقل العربي بل صارت مفاهيم إيران الشيعية تصدّر، ويتكثف العمل الدعائي بها حتى تتحول الثورة الإسلامية في إيران إلى عدوّ للعرب وتتحوّل إسرائيل إلى خصم قابل أن تنتهي العداوة معه.
إذاً، كيف يكون العقل العربي حاضراً، ويتم اللعب عليه من المؤسسات الإمبريالية الدولية كي يندرج في خدمة الصهيونية وينخلع عن خدمة المصالح العربية القومية له؟! وفي آخر ما حرر بأكذوبة الربيع العربي رأينا كيف سعت القوى الغربية الصهيونية المتحالفة لكي يحمل الداخل العربي مشروع الخارج الاستعماري البغيض، وكيف ادّعى الذين حملوا راية المعارضة زيفاً أن الغرب المتصهين سيأتي لبلادنا بالحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، ومع ذلك وجد من الأعراب من ينخرط في هذا التآمر وحين انصب الحال على سورية لم يخجل أعضاء في الجامعة التي تسمّى عربية بأن يوقفوا عضوية سورية.
وهنا نرى أن الجامعة توقف عضوية سورية وسورية ما تزال قلعة العروبة الصامدة مع فلسطين، ومع الكفاح العربي من أجل السيادة والاستقلال، في حين لم توقف عضوية بعض الدول العربية وخاصة الممالك والمشيخات التي تآمرت على قضية فلسطين وما زالت تعمل من أجل تمرير صفقة القرن، وها هي تطبع مع إسرائيل دون خجل، وفي ظل هذا نستمع إلى وزير خارجية مصر وهو يشترط على سورية أن تنفّذ بعض المتطلبات الخاصة بالأمم المتحدة بخصوص الحل السياسي فيها حتى يتم النظر بعودة عضويتها إلى الجامعة من جديد وكأنّ سورية هي التي أوقفت عضويتها، والجميع يعلم الدور التآمري الذي استخدم الجامعة في خدمة المشروع الصهيوني من قصة الثورات والربيع، نعم الثورات الداخلية التي حملت مشاريع خارجية صهيوأميركية، والمعارضات المرتبطة بمرجعيات تجبرها على أن تنفذ مخططاتها في سورية، لا أن تنفذ إرادة المعارضات في إعادة تشكيل بلدها، كما كانوا يدّعون.
واليوم حين ننظر إلى الحدث العربي نجده في إطار من فرض الهيمنة عليه من قبل الممالك والمشيخات المدعومة من حلف العدوان الإرهابي على العرب حتى تكون نتائجه في خدمة إسرائيل حصراً، ومع ذلك حين تتمكن سورية بقوة وحدة شعبها الداخلية، وقوة حلفائها، ومسانديها من هزيمة المشروع الغربي الإرهابي نجد كيف تتدخل أميركا وتحتل مناطق من سورية توفر فيها للإرهابيين الحماية، ودوام التحقيق للمخطط الغربي الإمبريالي الصهيوني بتدمير سورية كقلعة صامدة للعرب.
ومن قوة سورية وحلفائها حدث النصر على الإرهابيين في جميع الجبهات السورية، ووصل الحال عبر جنيف، وأستانا، وسوتشي إلى الربع ساعة الأخيرة من الحرب على الإرهاب، وبناءً عليه زاد السّعار الأميركي، واتضح بأن حلف أميركا ضد الإرهاب هو حلف معه، وبدل أن تساهم أميركا بالقضاء على الإرهاب دخلت مع الأكراد الانفصاليين في مخطط تقسيم سورية، ولو كان ذلك ضد مصلحة حليفتها في الحلف الأطلسي تركيا أردوغان.
واليوم بعد أن أعلن ترامب قرار انسحابه من سورية في أعقاب التأكد من ورطته مع الانفصاليين الأكراد، فلا هو قادر على خدمتهم في مشروعهم ومشروعه المشتركين، ولا هو قادر على أن يجبر أردوغان على الانخراط مع الأكراد في مشروع تقسيم سورية لذلك أعلن الانسحاب السريع، ثم تحوّل عنه إلى البطيء، ثم أوفد بولتون إلى تركيا ولم يستقبله أردوغان، وبومبيو إلى الأردن ولن يكون للإرادة الأميركية قوة الفرض التي كانت، فالعرب، والأعراب أصبحوا اليوم أمام خيبتهم الصريحة في علاقتهم بأميركا فمن سيكون تابعاً لأميركا سيكون مع صفقة القرن ولو مرغماً، ولا بد أن يدفع أكلاف وجود القوات الأميركية على الأرض السورية.
ومن هكذا منهج أو مخطط يتضح لمن في الجامعة العربية، وما زال يكابر بأن العرب إن عادوا إلى سورية سينتصرون معها، وإن تابعوا أدوات لأميركا فليس أمامهم سوى أن يدخلوا في المزيد من الهزائم، والخيبات من سورية إلى اليمن إلى كل رقعة عربية تحاول أميركا أن تجعل منها قاعدة لها لمنع تحرر العرب، وما زال العرب لا يقرؤون، ولا يحلّلون، ولا يستفيدون من تاريخهم، والفرق كبير بين السيد والسيادي، وبين التابع والعميل.
د: فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 14-1-2019
الرقم: 16884