عندما تتآكل الزوايا تفقد الجدران قوة ثباتها وصولاً للانهدام والتحطم، عندها تتقطع الأنفاس، يسود الصمت وتتعطل لغة الكلام، يفرُّ الزمن من عقارب الساعة، ويصبح كل شيء شحيحاً، تنكسر القلوب وتضيع الأمكنة في متاهات بعيدة، تتعب الأبجدية وتهدأ نبضات العروق، يتبعثر الضوء وتلملم العتمة أشلاءها حين تخبو نار المواقد.
يضيع ويتوه الأصحاب، تتلبد صفحات الدفاتر وترتفع الأقلام، يجف الحبر خَجِلاً؛ فما عاد يستطيع حصاد الحروف، بنهكه الألم، الكره، الأحلام المتلاشية، ترتفع خيمة البؤس ويحل الصبر؛ يتغلغل في حنايا الأيام، فقد تآكلت النفوس والذكريات حتى زواياها.
كانت الدنيا جميلة وردية، تملأ الفراشات فيها فضاءات الحقول، وعجلة الحياة تذهب للازدهار تدور فوق الشوك تسحقه، والمرارة أخذت تبتعد عن الحلوق، وتغيب زحمة الكسل عن دروب الأمل، أصبح الوطن خلية نحلٍ، أذهلت العالم بزوايا عسل سداسياته.
حينها اعتلت أوراق التقويم موجة حقد وكراهية، أخذت تساقطها لسنوات عجاف أماتت كل جميل، في شعارات حمَّلتها المغررين التائهين، وذرائع فكرية للهائجين، لتوطد الإرهاب بنيران الموت بالمجان، دفن الفرح مع من حضنهم التراب، وفي حقائب الغائبين.
أصبحت لعبة المزاد على سورية تتقاذفها المؤتمرات وقاعات الاجتماعات المتناثرة في بلاد الدنيا البعيدة والقريبة، حيث الشهية مفتوحة للتداول بمصيرها. ناسين أن السوري الأصيل لا يبيع حريته، ولا يساوم على وطنه إلا من باع نفسه للشيطان.
فرضوا الحصار والاغتيال والتجويع والتشريد والتهجير، والزمن يثقل يوماً بعد يوم إلى أن نهضت المقاومة؛ لتكون إلى جانبنا وبدأ الانتصار على الغزاة والإرهاب القادم من وراء الحدود والنصر يفرض ذاته على الأيام ويجرد من ادعوا أنهم ثاروا لأجلها، من الثياب المزركشة بالدولار، وبدأت تتهاوى نجوم الفنادق التي تلمهم.
تلك العينات البشرية التي أدمنت شمَّ رائحة الدولار، وكدست الكراهية للشعب الذي عاش بين أبنائه، قبل فقدهم رشدهم، حين غرتهم ضلالة الكهوف التي خرج منها الإرهاب وحامليه، غايتهم قهر الثوابت العقائدية، والأخلاق والأرض، وإعدام التاريخ السحيق حيث ظلال الحضارة عمت الدنيا.
الغاية زرع قيم منخورة لإقناع العالم أنها حالة صراع، وحقيقتها تفكيك عروة الوطن السياسية ووشائج المحبة الراقية التي تربط أبناءه، فتهدم بنيته الحيوية، وتنشر فكراً معادياً لا يخدم إلا العدو الصهيوني، وقطعان الإرهاب الجائر ومن ورائهم مصنعوهم ومشغلوهم وحاضنوهم.
الحرب على سورية حرب بين الحق والباطل والموت والحياة، انتصرت فيها سورية انتصرت ثقافة الصمود، والوعي وعشق الوطن؛ على السيف والفكر الصدئ، بين إرادة شعب يريد الحياة، وإرادة من سخَّروا قوى شرهم بكثافتها العدائية لتتوغل بيننا
مرَّ زمن الحرب متثاقلاً بطيئاً مفعماً برائحة البارود والقذائف المسعورة، والوطن ما فتئ أبناؤه يسعون لتغيير الفكر ونشر المعرفة الخصبة، لتحويل الزوايا الحادة إلى دوائر تجمع المجتمع وتأخذ بيده لحالة تنويرية، في الثقة بالنصر وإعادة الإعمار.
بطولات شعب وحكمة قيادة وبسالة جيش، ثالوث مقدس، صنع النصر الذي حيَّر العالم، معه بدأت معالم السياسة العالمية تتغير، وزوايا الهيمنة تتآكل أمام جبروت الإرادة، ما أعطى شعوب الغرب دروساً في النضال ضد الغطرسة والتبعية للتحرر.
أمام عبقرية معاني الشهادة والشهداء، تغيرت معاني المقاومة، فأصبحت قوة ترعب داخل العدو الصهيوني، الذي يحاول التعويض بمد يده إلى بعض العرب، علَّه يحقق بعضاً من أمنٍ؛ أمام الخطر الذي يتحسبه شارعه من سورية التي تقاوم اعتداءاته لها.
كل مآثر الشعب السوري العنيد في عدم التخلي عن وطنه، جعل أعداءه ينظرون إليه باحترام وتقدير، ويجعل الشرخ بينهم يتفاعل، ويربك مناهضيه الساعين اليوم له وهو مستعد لمواجهة أعدائه على أرضه، وسر صموده جعل زوايا خططهم تتآكل.
خلافاتهم تزداد وتخليهم عن أدواتهم ببيعها لأعدائهم وخبثهم بدأ يتكشف أمام شعوبهم ما يقوي الثقة بحلف المقاومة وحلفائها، في السياسة والعسكرة، أما أعداؤها فهمهم ألا تخيب مواقفهم أمام شعوبهم، وأن يخرجوا ولو بقليل من (الحمُّص) لحفظ ماء الوجه.
المهمة اليوم بأعناق المسؤولين عن خدمة هذا الشعب العظيم على الأقل في توفير أولويات العيش الكريم له، وتثمين قوته في مواجهة أعدائه، والحفاظ على مقدرات عطائه ليوظفها في بناء الوطن، الصامد بصموده وعدم صرف جهده أمام أبنائه باللهاث نحو أولويات الحياة، فكفاه ما عاناه في سنين الحرب، كي لا يفقد ثقته بمسؤوليه لأنه عندما تتآكل الزوايا بينهما، تتهاوى جسور المحبة.. فحذار من انهيار جدران الاحترام..
إضاءات
شهناز فاكوش
التاريخ: الخميس 17-1-2019
رقم العدد : 16887

التالي