ما زلنا ونحن في الفصل الأخير من الحرب الإرهابية على سورية نواجه التقلّبات الأميركية في السياسة، ونقف على أكثر من حدث لفقدان البعد الاستراتيجي عند صانع القرار الأميركي لا سيما لدى إدارة ترامب هذه التي ليست على توافقات محددة مع هيكلة الدولة العميقة الأميركية، وينعكس هذا الحال في الأفكار، والتشخيصات المتباعدة بين النواب في الكونغرس وبين الرئيس، وبين المسؤولين في البنتاغون وبين الرئيس، ومفاد هذا التناقض أن المركب المالي الصناعي العسكري النفطي ما زال متمسكاً في حروب ما وراء البحار مع أن الرئيس السابق أوباما قد وعد بوقفها لكنه حوّلها من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة، وعلى عكس نظيره يقوم ترامب بإعادتها إلى القوة الصلبة لكن عبر تحالف دولي مزعوم بأنه ضد الإرهاب، ولم يكن على الأرض فيما قامت به أميركا وتحالفها الستيني ما يقنع بأنها تقاتل الإرهاب والدليل أنها لا ترغب بالتنسيق مع الدولة الشرعية، وحلفائها في المخصوص ذاته.
والضياع الاستراتيجي الأول لدى أميركا هو أنها خططت عبر الحرب الإرهابية لتدمير الدولة السورية، وتفكيك مجتمعها، ورصدت عملاءها في المنطقة لتنفيذ هذا المخطط والأكلاف من عندهم أيضاً وفي مجرى الحرب على سورية أخذت أميركا تكتشف يوماً بعد يوم، ومعركة بعد أخرى بين الدولة ومن حالفتهم أن هذه الدولة تظهر متينة، وقوية بشرعيتها الشعبية، وجيشها الباسل، وبمجتمعها الذي فهم المؤامرة عليه، وشرع يغلق الطريق أمامها منخرطاً في حربه الوطنية العادلة ضد الحرب الإرهابية عليه، والفشل الاستراتيجي الأميركي المباشر في الحرب على سورية كان بانكشاف المشروع الإقليمي المصمم لسورية، والمشروع الدولي المصمم للإقليم، وعليه أخذ يستوضح العملاء بأن الفكر التقسيمي الذي يتمُّ إدخاله إلى سورية حتى تتشكّل ثقافة الانقسام، والتقسيم ليأتي التقاسم على الجميع خارج سورية فكرٌ يُصمّم صهيونياً، وتتعهده أميركا بالتحقيق. ثم إن الإرهاب الذي يبدو بأنه تحت السيطرة الأميركية، وقد اتُّهم الرئيس الأميركي السابق مع هيلاري كلينتون برعايته، وتوفير بيئة ظهوره؛ نعم هذا الإرهاب لماذا يخرج عن السيطرة ويضرب أوروبا وهي حليف لأميركا على سبيل المثال؟.
وحين توالى مسلسل الفشل الاستراتيجي لأميركا وأدواتها في الحرب الإرهابية على سورية تدخلت أميركا بجيوشها وجلبت معها الجيوش الأطلسية وطفقت تدّعي محاربة داعش وغيرها، وهنا كان السلوك الأميركي واضح العقدة السياسية فمن ناحية لا تريد أميركا الاعتراف بشرعية الدولة السورية رغم أنها -أي الدولة- قد تعزّزت شرعيتها عبر قدرتها على مواجهة الحرب الإرهابية عليها، وعبر قدرتها على خلق تحالف معها في هذه الحرب من القوى الصاعدة دولياً، ومن القوى الأكثر فاعلية على الأرض السورية، ولبنان المقاوم، والمقاومة الفلسطينية.
وبعد ذلك تعززت شرعيتها في انتصاراتها على كل جبهة ضد الإرهاب حتى طردته من كافة المدن، والمناطق السورية، وحصرته في إدلب، وريف حلب حتى تأتي ساعة الحسم الأخيرة. ومن غريب الحال أن أميركا تدّعي أنها شريكة في الحرب على داعش وقد شاهدها المراقبون تنقل مسلحي داعش من المكان الذي صار حصار الجيش العربي السوري، وحلفائه ممكناً له. وفي الفشل الاستراتيجي لأميركا الخسارة الكبرى وهي أن القوى الداخلية المحسوبة على المعارضة لم يعد بامكانها حمل مشروع إقليمي داخل بلدها. ولا العملاء الأميركيون قادرون بعد على تسويق المخططات الخارجية في الداخل السوري. ومع أن هذا الحال يعتبر جزءاً من انتصار الدولة بشعبها، وجيشها لكن أميركا تتعامى عن أي انتصار للدولة لكونه على الوجه الآخر خسارة استراتيجية لها ولكيان العدوان إسرائيل على حد سواء.
وعليه فقد هُزِمَ المشروع الصهيوأميركي في سورية، وحتى في منطقة الشرق العربي عموماً، ولم تعد تدخلات أميركا تكسبها أيّ نصر معنوي على أقل تقدير؛ ويضاف إليه ما وقع بين أدواتها من خلافات جعلتهم يواجهون بعضهم بدل أن يواصلوا الهجوم على سورية وفق ما خطّطت لهم أميركا. وفي الفصل الأخير من الحرب الإرهابية على سورية يتضح عجز أميركي استراتيجي كذلك فأميركا لم يعد بيدها تحريك الأحداث وفق مخططاتها. ثم لم يعد بيدها إجبار الدولة السورية الشرعية، والمنتصرة على شيء، ورغم أنها عرقلت جنيف المتعدد، ولم تشترك في تفاهمات أستنة، وسوتشي لكنها سعت لخلق معادل جيواستراتيجي شرق سورية بدعمها للأكراد المسلحين في قسد وحماية الشعب، بوهمها أنها ستحقق بهذا التشكيل العسكري السياسي ما عجزت عن تحقيقه بدعم داعش والنصرة. ولم تنجح في هذا المسعى لكونه يضرُّ بالأمن القومي لتركيا أردوغان، وبدأ الكباش السياسي بين ترامب وأردوغان إلى اللحظة التي قال فيها ترامب: سيواجه الاقتصاد التركي كارثة إذا هاجم أردوغان الأكراد في شرق الفرات. ومع ذلك فقد أُعْلِنَ عن مكالمة هاتفية بين ترامب وأردوغان يتفق فيها الاثنان على خلق منطقة عازلة على طول الحدود السورية التركية وبعرض ثلاثين كيلومتراً كما يزعم ترامب. وفي هذا الإعلان عاملان الأول: ما الذي سيفعله أردوغان بما تم التوافق عليه في المنطقة المنزوعة السلاح والتهدئة فيها كما جاء في اتفاق سوتشي وقد حُدّدَ عرضها بعشرين كيلومتراً، لتتم تصفية جيوب الإرهاب فيها بالحلول المناسبة؟ والثاني: هل الإعلان هذا يعتبر حديثاً للإعلام وفيه ما فيه من الإشعار بدوام المحاولة الأميركية لنسف منجزات أستنة، وسوتشي عبر استرداد أردوغان من حقل الدول الضامنة؟ إذن تعمل أميركا على تخريب الجهود عبر الدول الضامنة، وعلى إشعار الكرد المتعاملين معها بأنهم ليسوا بحاجة للتنسيق مع الدولة السورية للتقرير بشأنهم، وها هي أميركا ستوفر لهم الشريط الحدودي الذي يحقق الجغرافيا المطلوبة لما وعدتهم به.
ومن اللافت أن أميركا لم تهتم باحتلال النصرة لكامل منطقة إدلب وريف حلب الغربي وكل ما تريده هو عدم تمكين الجيش السوري وحلفائه من تحرير المدينة وريفها، وريف حلب بذرائع مكشوفة فيها خدمة الإرهاب. ما يبدو من محاولات أميركية مع تركيا قد تكون من أجل تغطية الزعزعة السياسية التي خلفّها قرار ترامب بسحب قواته من سورية مع أن هذا القرار لم يُنفّذ منه سوى إعادة انتشار فقط، ومن الواضح أن فيه مماطلة في الزمان فقد كان الانسحاب سريعاً صار بطيئاً، ولقد قدّمه ترامب ضمن رغبة بإنهاء الحروب التي لم يعد لها طائل على أرض الرمال والموت في البادية السورية، ثم ينسحب ترامب من كلامه ليجدد دعمه لمنطقة عازلة تقتطع من الجغرافيا السورية، وتصبح موطئ قدمٍ للمخطط التقسيمي الذي شبع فشلاً.
إن التقلّب في السياسة الترامبية مقصود منه صنع بؤر توتّر في منطقتنا، وفي مناطق من العالم يحتدم فيها الصراع العالمي كيلا يشعر المواطن الأميركي بهزيمة بلاده مع أن الهزائم الاستراتيجية لأميركا، وخصوصاً في عهد ترامب، سوف تتوالى، وما يتصرفه ترامب يوماً بعد يوم يعطّل الحياة الدولية التي يجب أن تبنى على علاقات سليمة يقرّها القانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة، ولكن أميركا خدمةً للصهيونية ومشروعها في بلادنا لا تنفك عن اتباع سياسات نسفٍ لكل الجهود الدولية الرامية لحلٍّ سياسي عادل في بؤر التوتر، وزيارة بولتون للمنطقة، والإعلان عن مؤتمر وارسو لتشكيل حلف يجعل إيران تتصرف بشكل لائق كما قال بومبيو دليل جديد على فشل استراتيجي كبير، فلا التلويح بحلف وارسو أميركي، ولا الناتو العربي سيفيدان أميركا.
د: فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 21-1-2019
الرقم: 16890