لم يترك التصعيد الأميركي فسحة للحديث، في وقت يأخذ التسخين في المواقف حدّه الأقصى وسط هلع من تداعيات القرار الأميركي بوقف العمل بمعاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة، التي جاءت بعد قصة ترويج طويلة من الأكاذيب والادعاءات طالت جميع السيناريوهات المختلفة التي دفعت إلى الجزم بأن العالم لم يعد على حافة الهاوية في الصراع السياسي، بل هو كذلك من المنظور العسكري.
فالمسألة لا تقتصر على الانسحاب من عدمه فيما يخص المعاهدة، وإنما في النهج الذي بات العنصر الأكثر مدعاة للقلق العالمي، في ظل انسحابات اميركية متتالية من المعاهدات والاتفاقات الدولية، سواء تعلقت بالطابع الثنائي أم كانت في سياق اتفاق دولي، والتي بدأت بمنظمة اليونسكو ولم تنتهِ بالاتفاق النووي، مروراً بالكثير من المعاهدات الأخرى التي باتت تحت ساطور الانسحاب المسلط، حين تعجز عن مجاراة الأهواء الأميركية أو حين لا تستطيع الاستجابة لأطماعها.
ورغم الفارق الكبير بين ما أقدمت عليه في كل الخطوات السابقة، وما باتت عليه فيما يخص معاهدة الصواريخ المتوسطة، فإن ما تنتهجه من سياسات يكاد ينسحب على مجمل التفكير الأميركي، حيث تراكم الممارسات من الأخطاء التي لا تقتصر على الخيارات، بل أيضاً تكون شكلاً من أشكال التورّم في الهيمنة التي باتت النموذج الأكثر حضوراً في ظل الإدارة الحالية، وما تُقدم عليه.
الأخطر.. أن إدارة ترامب لا تكتفي بصياغة سياسات استفزازية فقط على المستوى الدولي، بل تحمل في طياتها عصياناً لكل أشكال التعاون الدولي الممكن، وبات المتاح اميركياً هو ما يصبّ في خانة التصعيد، بحيث لم تُقدم على خطوة إلا وكانت تثير الكثير من الزوابع في الداخل والخارج، ولم تتخذ قراراً إلا وأثارت الجدل لدى حلفائها قبل خصومها وعند أصدقائها قبل أعدائها.
إلا أن قرارها الأخير كان القطرة التي طفح الكيل بها، حيث المسألة لا ترتبط بمعاهدة عادية تعني فقط روسيا وأميركا، بل هي تثير معضلة على المستوى العالمي، ليعود هاجس الرعب النووي كي يكون سيد الموقف، وسباق التسلح الذي عانت منه العلاقات الدولية أصبح اللغة الوحيدة المتاحة على الساحة العالمية، وهو ما يعني استعصاءً غير مسبوق سينسحب على مجمل القضايا والمشاكل التي تواجهها دول العالم، والناتجة عن نزوع أميركي نحو المواجهة بدل الحوار، حيث تتساوى الدول والقارات والمناطق.. بعيدها وقريبها في هوس المواجهة، و الجميع اعداء وخصوم حتى يثبت العكس.
العودة الأميركية إلى فضاء الرعب النووي وما يحمله في طياته من سوابق لا يمكن التكهن بنتائجها المستقبلية، ليس مساراً سياسياً، بقدر ما هو مأزق تاريخي تعبر عنه وتترجمه مشاهد الانزلاق في تهشيم العلاقات الدولية وتحطيم المعاهدات والاتفاقات، لتترك الحبل على غاربه لفوضى العلاقات الدولية وسياسة الغاب ومنطق القوة المتوحشة، ليكون مشهد الانزلاق إلى الهاوية حاضراً في سياق الخيارات المتاحة أميركياً.
فائض الطيش الأميركي يبدو أنه سيكون الأكثر حضوراً على مستوى المواجهة القادمة في العلاقات الدولية، وهو ما يفسر جزءاً من آلية النزوع الأميركي نحو استخدام فائض ما تبقى من رعونة لم تستخدمها في مقاربة القضايا العالمية، حيث بات حضورها في أي ساحة دولية أو إقليمية وبأي شكل مصدراً للقلق وهاجساً للتوجس وخطراً محدقاً، وربما حتمية تؤشر إلى المأزق التاريخي على البشرية أن تواجه استطالاته المرضية في ظل إدارة أميركية لم ولن توفًر أحداً.
بقلم رئيس التحرير عـلي قـاسـم
a.ka667@yahoo.com
التاريخ: الأثنين 4-2-2019
رقم العدد : 16901