الملحق الثقافي-د. محمود شاهين:
اشتغل الخطاطون السوريون الرواد على أنواع وأجناس الخط العربي كافة، وبعضهم طوّر في خطوطه، فتفرد بأسلوبه وتميز، لكن ضمن الأسس والموازيين التقليديّة، ووفق الأسس والأصول التي صانت وحرست هذا الفن الرفيع الذي كان القرآن الكريم من أهم وأبرز روافعه، وعوامل صونه وحفظه، إذ لا زال القرآن الكريم، الميدان الرئيس، لإبداعات الخطاطين العرب والمسلمين، رغم التطور المذهل، لوسائل الطباعة وانتشارها، والتي لا زالت حتى يومنا هذا، تعتمد على جهود الخطاطين وإبداعاتهم، لاسيّما نسخ القرآن الكريم الذي يتم كتابته من قبل الخطاط الذي قد يقوم بتخطيطه وزخرفته في آنٍ معاً، أو قد يتشارك مع رسام متخصص بالزخرفة، بتزويق وتزيين صفحاته وغلافه.
____________________________________________________
شام شريف
يشير الباحث أحمد المفتي في مقدمة كتاب (الخطاطون السوريون الرواد في الثلث الأول والثاني من القرن العشرين) إلى أن دمشق لم تخل خلال القرن الثامن عشر الميلادي من بعض النوابغ في الخط العربي. إلا أن من كان يجد في نفسه القدرة، سرعان ما يتجه إلى بلد السحر (استانبول) ويقيم فيها أمثال الخطاط الشهير (عبد الله الزهدي النابلسي الدمشقي) الذي خط الحرم النبوي، وستارة الكعبة المشرفة. وبذلك خلت دمشق من المشاهير. ومع ذلك فإن وجودها على طريق الحج، وقدسيتها عند المسلمين (شام شريف) جعلها مقصد المشاهير وهم يرافقون المحمل الشامي المطرز بخيوط الذهب على طريقة (الصرما) فقد أقام فيها من بلاد العجم كبار الخطاطين أمثال صاحب قلم، ومشكين قلم، وزرين قلم، ومحمد علي البهائي، وكاتب الظفر، وعماد الحسيني. ومن استانبول: الحافظ عثمان، وشفيق، ومصطفى الراقم، ومصطفى عزت، وقاضي عسكر، وشوقي، وزهدي، ومحمود جلال الدين، والحافظ تحسين، والسلطان محمود،
وخلّفوا فيها تراثاً كبيراً، وفي جوامع دمشق أمثلة لبعض الخطوط التي أبدعوها: في الأموي، وجامع الشيخ محي الدين بن عربي، والدرويشيّة، والسنانيّة، والتكية السليمانيّة. وكان حريق الجامع الأموي عام 1893 كارثة على أهل دمشق، فقدوا فيه أثمن وأجمل لوحات الخط والمصاحف. ويروى أن المصحف الإمام، مصحف الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد ذهب في هذا الحريق، وسارع أهل المدينة لترميم جامعهم الكبير، وأوفد السلطان عبد الحميد الثاني الخطاط يوسف رسا لكتابة ألواح الجامع ومقام سيدنا يحيى عليه السلام. فالتف حوله عشاق فن الخط، ونهلوا من خبرته وفنه. فكان ممدوح الشريف، وبدوي الديراني، وموسى الجلبي، وصبحي البيلاني، وسليم الحنفي، وأبو خليل الزيناتي، وحسين صديق البغجاتي، ومحمد علي الحكيم، وأديب نشّابة، وتميز مصطفى السباعي بخط التعليق، كما كان منهم جمع من العلماء والفقهاء الذين وجدوا في حسن الخط ضرورة للتعلم والتعليم، وكان منهم الشيخ السفرجلاني، ومنهم من كان عارفاً ذواقاً محباً لهذا الفن، فاقتنى وجمع النفائس أمثال نقيب الأشراف سعيد أفندي الحمزاوي الذي أهدى متحف دمشق الوطني جل نفائس المخطوطات من المصاحف المذهبة.
هواية وليس حرفة
وبرأي الباحث أحمد المفتي أن هؤلاء الرواد، شكلوا حركة النهضة في فن الخط العربي مطلع القرن العشرين، لكن أكثرهم لم يتخذه وسيلة للعيش وإنما للفن والتذوق، وبالرغم من مهارتهم وتفوقهم فيه. وهكذا بدأت تظهر مكاتب ومراسم لهذا الفن الجميل في دمشق، لعل أشهرها مكتب الخطاط ممدوح الشريف. ثم جاء من بعده تلميذه حلمي حباب، وبدوي الديراني خطاط بلاد الشام بلا منازع. وجاء من بعده تلميذه زهير المنيني، ثم حسين صدّيق البغجاتي، والشيخ محمد الزرزور، وعبده الصلاحي.
أبرز الأعلام
يعتبر الخطاط ممدوح الشريف (كما يُشير الكتاب) الرائد الدمشقي الأول في فن الخط، وكانت له شهرة واسعة في سورية ولبنان والأردن وفلسطين. تفرد هذا الفنان بقواعده في خط الثلث والكوفي، فكان ينظر إلى الفراغ نظرة جماليّة، ويتجاوز موازين الحروف من حيث الطول والقصر وذلك حسب التكوين. بعده جاء بدوي الديراني الذي درس مع الشريف في مدارس دمشق والكلية العلميّة الوطنيّة، وقدم لبلاد الشام الأسلوب الجديد في قواعد خط التعليق، بعد أن كان خط الثلث هو المتربع على عرش الخطوط. وعمل بدوي على إدخال تدريس الخط ضمن المنهج التعليمي وأفلح في ذلك، وتخرج على يديه نخبة من أرباب القلم والتاريخ والأدب والشعر أمثال الأديب المؤرخ الوزير شاكر مصطفى، والشاعر الذي طبقت شهرته الآفاق نزار قباني، والمحامي الموسوعي نجاة قصاب حسن، ثم جاء حلمي حباب، وهو تلميذ ممدوح الشريف، وقد لازمه حتى وفاته، وخط شاهدة قبره. ذاعت شهرة حلمي حباب بعد وفاة أستاذه، وقد استفاد من العلاقات التي كان ممدوح قد أقامها مع زبائنه، ونهج طريق الفن بصبر وشجاعة، ودرّس في مدارس دمشق طوال حياته. ثم درّس في دار المعلمين، وكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وعمل خبيراً لدى المحاكم السوريّة.
يعتبر حلمي من جيل الرواد الذين شكّلوا مطلع القرن العشرين حركة الريادة في الخط العربي، وشارك في المعارض المحليّة والدوليّة. بعده جاء زهير منيني الذي درس الخط على يد بدوي الديراني، وشغف بالموسيقى فانتسب عام 1945 للمعهد الموسيقي الشرقي، وتعلم الموشحات على يد الأستاذ سعيد فرحات، ثم انتسب لفرقة الفنان الشهير عمر البطش فأخذ عنه بعض الموشحات ورقص السماح، وقد وهبه الله صوتاً جميلاً، إلى جانب موهبة الخط.
ومن أعلام الخط البارزين في دمشق حسين صدّيق البغجاتي الذي درَّس مادة الخط في مدارس دمشق. ومحمد زرزور الذي تعلم الخط على يد ممدوح الشريف، ثم لازم بدوي الديراني حتى وفاته. برع بالخط الفارسي، والثلث.
ومن الخطاطين المعاصرين زهير زرزور الذي تتلمذ على يد الخطاط موسى الجلبي، ونال شهادة الخطاط بدوي الديراني. وعبد الرحمن فاخوري الذي عمل في الصحافة السورية، وقام بتدريس الخط في مؤسسات وزارة الثقافة ووزارة التربيّة. ومحمد قنوع الذي درس الخط من حلمي حباب، ثم تابع تدريباته على يد الخطاط بدوي الديراني. تميز بالخط التعليق، وابتكر بعض الخطوط الفنيّة الحديثة، استعملها في الصحافة السوريّة. كان رئيساً للجمعية الحرفيّة للخطاطين،
حيث تمكن من جمع الخطاطين حوله وقرّبهم من وسط الفنانين التشكيليين، وأدخل الخط العربي لأول مرة إلى المعرض السنوي للتشكيليين السوريين، وهو ما يُعتبر إنجازاً نوعياً. وعثمان حسين طه الذي ذاعت شهرته في جميع أنحاء العالم الإسلامي بانتشار المصحف الذي خطه لمجمع الملك فهد بن عبد العزيز في المدينة المنورة، وقد أجيز هذا الخطاط من قبل الخطاط الكبير حامد الآمدي، وقد اختارته وزارة الأوقاف السوريّة ليكتب أول مصحف بالرسم العثماني، وكانت المصاحف التركية تتبع القواعد الإملائيّة الحديثة. ثم كتب مصحف الدار الشاميّة. ثم جاء محمود الهواري الذي تتلمذ على يد بدوي الديراني ولازمه حتى وفاته، وقد أجيز من قبل الخطاط محمد هاشم البغدادي وكان على علاقة وثيقة به، كما أجيز من قبل الخطاط التركي الشهير حامد الآمدي. صمم الهواري حروف لعدة أنواع من خطوط الكمبيوتر، وبعض الحروف الضاغطة لعدة شركات عربيّة وأجنبيّة، ويمتلك مجموعة نادرة لكبار الخطاطين القدماء، ويُعد منزله معرضاً دائماً للخط العربي.
الخطر الداهم
يتفق غالبية الخطاطين والباحثين في علوم الخط العربي، على أن أبرز وأهم خطر يتهدد الخط العربي هذه الأيام، هي أنماط وطرز وأنواع الخطوط العربيّة التي تحملها الحواسيب المتنامية الانتشار والاستخدام في عالمنا العربي والإسلامي، وجميعها قام بتصميمها ناس من غير أهل هذا الخط، ومن غير العارفين بقواعده ونظمه وموازينه الصحيحة، ما يجعله عرضة للتشوه والخطأ والتخريف.
هذا الواقع البائس الذي يعاني منه الخط العربي، خاصةً ذلك الذي تُعممه الحواسيب التي دخلت مرافق حياتنا كافةً، أو ما يشتغل عليه الفنانون التشكيليون الذين أدخلوا الخط العربي إلى لوحاتهم، كعنصر ثانوي أو رئيس في بنيتها، دفع بالخطاطين للإعلان صراحةً، ودون مواربة، عن خوفهم الشديد على مستقبل هذا الفن العربي الرفيع الذي كان الخطاطون يركضون مع عجلة الطباعة، ويرفدونها بعناوين مخطوطة بنماذج رائعة منه أشهرها الثلث. كان ذلك في الزمن الذهبي للخطاطين الذين كانوا يتبارون فيما بينهم لكتابة أجمل العناوين للكتب والصحف والمجلات، حتى يكون صاحبها مقصوداً من جميع الأدباء والناشرين وأصحاب المطابع.
هذه الحالة انتهت اليوم بوجود الحواسيب التي قام بتصميم حروفها الطباعيّة الأولى، هنود ورومان وفرس وهولنديين، وباتت تعتمد على خطوطها وسائل الاتصال البصريّة المعاصرة كافةً، كالصحف، والمجلات، والكتب، والتلفاز، والملصقات، والاعلانات، والآرمات وغيرها، الأمر الذي أدى إلى أن يُصبح غالبية الخطاطين بلا عمل.
التاريخ: الاثنين19-2-2019
رقم العدد : 16912