في هذا العالم الافتراضي بمشتقاته كافة، لاشيء خارج التغطية، أيضاً لا شيء يعرف بدقة متناهية، عصي على الفهم والوضوح لأنه أداة تعبّر فعلاً عمّا في كل واحد منا، بالوضوح والغموض، بالسر والعلن، ازدواجية الشخصية، فصامها، تحولاتها من هادئة متزنة إلى صاخبة مجنونة، كل يبحث عمّا يريده ويجده، ولكن الجميل أيضاً أننا أصبحنا نعرف كيف يعيش من يترك وطنه ويفرّ إلى مكان آخر، وهو يأمل بملذات الحياة ورغباتها، يعتقد أن سمرته وجمال عينيه، وعبقرية خيانته لوطنه، هي التي تجعل الآخرين يحملونه على كفوف الراحة، ويقدمون له العلف كما لو كان قطيعاً هارباً من حظيرة ما ووجد من يأخذه ليربيه.
ربما تبدو القسوة كبيرة فيما نذهب إليه، لكنها بالتأكيد لا تعني الجميع، فثمة من ضاقت به الدنيا، واتسع مكان آخر له، ولعل ما قاله أحد الشعراء يعبّر عن ذلك: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها… لكن أخلاق الرجال تضيق.
من هذا العالم الأزرق أتابع الكثير من القصص والحكايا، وكم يكون الأمر مؤلماً حين تتعلق بنا، بمن ترك أرضه ووطنه، ليس من سورية وحدها، إنما من هذا العالم المسمى من الماء إلى الماء وطنا عربيا، الوطن الذي يبذخ على كل شيء إلا على بناء الإنسان وقدرته على الارتقاء والعيش الكريم، من بستان التيه الفيسبوكي كانت وقفة مع ما رواه الأستاذ محمود عبد الواحد، الكاتب والمبدع، على صفحته، عن مهاجر ترك وطنه وبعد صراع عاتٍ مع مخاطر البحر والهجرة وما واجهه منها، يصل إلى حيث الملاذ في المانيا (كما يعتقد).
في المكان المخصص له، معسكره المغلق، وهو يظنه مدينة، يصادف شخصاً يحسبه ألمانيّاً يتوجّه إليه قائلاً: أشكركم لأنكم وفرتم لي كل شيء، يرد الشخص الآخر: لست ألمانيّاً أنا عراقي، يتحدث بالعبارة إلى عشرات الأشخاص ممن يلتقيهم، والجميع يردون: لسنا ألمانا، نحن من كذا وكذا، يسأل: أين الألمان؟
يأتيه الجواب إنهم في العمل، نعم، في العمل، كلهم في العمل، يعملون ليقدموا لك… لكن هل هم جمعية خيرية، وهل دبّت الإنسانية فجأة بقلوبهم؟ وكيف جرى هذا التحوّل ولمصلحة من؟ هل أغرموا بنا كمهاجرين؟ هل سأل أحدهم عن السر وراء ذلك؟
ما الذي يريده هؤلاء الغربيون من هذه الخدمات كلها؟ هل يحشون بطوننا مجاناً، بالتأكيد: لا، وراء القصة كهف من الأسرار، أولها: يفسره القول المعروف: إذا كانت البضاعة مجانية، أعلم أنك أنت الثمن!
لا شيء في هذا الكون مجاني، ستدفع الثمن حيث أنت، قد يكون تأليباً لك على أهلك ووطنك، وزجّك فيما بعد في أتون الأحقاد والنار التي لا تنطفيء، وقد تكون يداً عاملة رخيصة تعمل أو تجبر فيما بعد على العمل تحت أي ظرف كان، تخيل نفسك بمعسكر تأكل وتشرب ولا تعمل شيئاً، فقط يسمعونك ألف حكاية وحكاية عن وطنك، فيها ما فيها، يحرضونك، يدفعونك، وأنت المشحون من قبل؟.
فما العمل؟ اليس هذا ما يجري، إذا كانت حروب الجيل الرابع واضحة جلية فهذه ألوان من الجيل الخامس، وما من أحد منّا إلا ومسؤول عن إيقافها والبحث عن حل، فهل نصل يوماً ما يسأل فيه الألمان: أين العرب؟.
ديب علي حسن
التاريخ: الجمعة 22-2-2019
الرقم: 16916