الملحق الثقافي.. حاتم حميد محسن:
المشكلة التي تبرز الآن هي كيف يمكن صياغة نظام أخلاقي يأخذ بالحسبان مخاوف واهتمامات أجيال المستقبل، ذلك أن الأفراد الذين يجري الاهتمام بهم هم لازالوا غير موجودين. بالطبع، نحن نفترض أن الأجيال القادمة ستكون موجودة ما لم تحصل ظروف مثل التعرض إلى دمار شامل أو انقراض غير متوقع للإنسان. سنعرض هنا بعض الصعوبات الناجمة عن محاولة بناء نظام أخلاقي يدمج معه الناس الذين لم يوجدوا بعد. أولاً، هناك سؤال حول مدى ضرورة تضمين أجيال المستقبل في قراراتنا الأخلاقية. لو قررنا أننا يجب أن نفكر بشعوب المستقبل عند تقييم أفعالنا، فسيبرز سؤال عن أي نوع من النظام الأخلاقي يجب أن نستعمل للقيام بهذا؟ في الإجابة على تلك الأسئلة نكون قد فتحنا النقاش على مصرعيه حول المشاكل المتصلة بأخلاق المستقبل.
هل يجب على الأخلاق الاهتمام بالمستقبل؟
قبل التفكير في صياغة نظام أخلاقي للمستقبل لا بد أن نقرر أن كان للمستقبل حيز في نقاشاتنا الأخلاقية. هل يجب أن نأخذ في الحسبان شعوب المستقبل عند الحكم على صوابية أو خطأ أفعالنا؟
قد يبدو من السخف أحياناً الاهتمام بأناس لم يُخلقوا بعد. فمثلاً نحن لا نقلق حول ما يسببه تجريف الغابات للكائنات المحلية غير المرئية التي تقطن تحت الأرض لأن أي شيء نفعله سوف لن يؤثر على تلك المخلوقات لكونها غير موجودة. غير أن هناك فرقاً كبيراً بين الكائنات اللامرئية والإنسان الذي لم يوجد بعد. الصنف الأول قد لا يكون موجود أبداً بينما الإنسان يُحتمل أن يوجد. وبهذا فإن الكائن البشري المستقبلي ينتمي إلى صنف خاص من الكائنات غير الموجودة. يمكن أن نسمي هذا الصنف بـ «أشخاص على وشك الوجود» ونعرّفهم بالضبط كمجموعة من الناس يستحقون الاعتبارات الأخلاقية حينما يوجدون وسوف يوجدون حتماً في يوم ما.
الآن نحتاج لنقرر ما إذا كان يتوجب علينا التفكير بهؤلاء الناس وشيكي الوجود عندما نقيّم أفعالنا أخلاقياً. نرى أننا يجب أن ننظر بعين الاعتبار لأفراد المستقبل بصرف النظر عن النظام الأخلاقي الذي نستعمله. هنا سنميز بين صنفين رئيسيين من الأنظمة الأخلاقية: وهما النظام الدينوتولوجي deontology والنظام الذرائعي القائم على المحصلة consequentialism. النظام الدينوتولوجي هو أي نظام أخلاقي يؤمن بأن الأفعال يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة بطبيعتها بصرف النظر عن نتائجها. فمثلاً، الشخص الدينوتولوجي يفترض إننا يجب علينا دائماً قول الحقيقة، وأن الكذب غير جائز في كل الظروف حتى في الظروف الحرجة. أما النظام الذرائعي فهو النظام الذي تكون فيه نتائج الفعل هي الاهتمام الرئيسي للتقييم الأخلاقي، فتكون لها الأسبقية إما على الفعل ذاته أو على النوايا في أداء ذلك الفعل. المفكر الذرائعي يعتقد أن القتل ربما يصبح ملائماً إذا كان ينقذ حياة الآخرين. بعض الفلاسفة يؤمنون أن هذين النوعين من الأنظمة الأخلاقية يمكن التوفيق بينها في طريقة واحدة للتفكير. سنبين أن كلا النظامين بطبيعتهما مرتبطان بمستقبل الأجيال.
كيف يهتم النظام الدينوتولوجي بالمستقبل؟ إنه غير معني حول ما إذا كان هدف الفعل موجوداً أم لا. النظام الأخلاقي الدينوتولوجي يلوم القاتل كخطأ بذاته: لذلك، يبقى القتل خطأ بصرف النظر عن هوية القاتل الذي ربما يكون هتلر أو جارنا أو مراهق كان يقوم بتنظيف الحديقة. المسألة هي أن الفعل لو كان خاطئاً سلفاً وبذاته، عندئذ فإن الفرد الذي يمارس الفعل هو ليس جزءاً من التقييم الأخلاقي. ولذا، فإننا في ظل النظام الديناتولوجي لا يهم ما إذا كان الفرد موجود سلفاً أم لم يوجد بعد. هو يتم التعامل معه باهتمام متساو.
وبهذا، فإن الأنظمة الدينوتولوجية تتضمن بشكل غير مباشر أجيال المستقبل طالما يتم النظر إليهم بنفس الأسلوب كالناس الحاليين. النظام الذرائعي أيضاً يتضمن أفراد المستقبل في اهتماماته لأن الذرائعية هي دائماً تهتم بالمستقبل. إنها تقيّم ما إذا كان الفعل أخلاقياً أم لا طبقاً لنتائجه وتنظر في تأثير الفعل في المستقبل.
إن المستقبل هو سلفاً جزء من تفكير الذرائعي. فمثلاً، النتائج قصيرة الأجل لتفريغ برميل من المواد الكيميائية السامة في الماء ستكون خطيرة جداً، إنها ستقتل الكثير من الأحياء وتلوث مياه الشرب في المدينة. ولكن عندما ننظر إلى المستقبل بعمق، سندرك أن هذا التلوث قد يسبب عيوباً في الولادات وسيؤذي أولئك الذين لم يولدوا بعد. النظام الذي يضع أحكاماً أخلاقية بالارتكاز على النتائج، سيكون منشغلاً بالمستقبل وبالناس الذين سيشغلونه.
الآن، لو كنا مجبرين على الاهتمام بالمستقبل، فأي اتجاه أخلاقي سنسلك؟ أي من النظامين الأخلاقيين هو الأفضل في التعامل مع المستقل؟ كلا النظامين يؤكدان على ضرورة التعامل مع أفراد المستقبل أخلاقياً، ولكن أياً منهما يوفر علاج أفضل للقيام بهذا؟
نميل إلى الاعتقاد أن النظام الذرائعي يهتم بطريقة اكثر فاعلية من النظام الديناتولوجي، ذلك بسبب إننا لا نستطيع تصميم صيغة دينوتولوجية للتعامل مع أفراد المستقبل لا تنطوي بذاتها على مضمون ذرائعي. فمثلاً، لو قلنا إننا يجب أن نحافظ على الكوكب لأجل مستقبل الأجيال، ذلك يعني أن علينا واجب تجاههم من خلال دورنا كرعاة للأرض (الواجب الخالص هو أخلاق دينوتولوجية). ولكن لو حللنا ذلك أكثر، سنرى أن هناك شعوراً ذرائعياً نحوه. من حيث الأساس نحن نقول: «يجب علينا المحافظة على أجيال المستقبل دون المساس بالكوكب، لأننا إذا لم نقم بذلك فهم سوف يعانون كثيراً». وبهذا فإن واجبنا يتحدد بعبارات من النتائج. ولذلك نرى من المناسب الاقتصار على النظر إلى الطرق الذرائعية في التقييم.
النفعية، الألمية، أفراد المستقبل
لو قررنا استعمال النظام الذرائعي في تقييم التزاماتنا الأخلاقية تجاه شعوب المستقبل، فإن السؤال القادم هو أي صيغة منه هي الأكثر ملاءمة؟ ربما تكون النفعية نقطة جيدة للانطلاق لأنها واقعياً مرادفة للأخلاق الذرائعية. سنرى أن نوعاً معيناً من النفعية والذي يُعرف بالألمية pianism هو الخيار الأفضل هنا.
لنرى ما تعنية «النفعية» و»الألمية». النفعية بمعناها الكلاسيكي تشير إلى ذلك النوع من الأخلاق الذرائعية التي صاغها كل من جرمي بنثام (1748-1832) وجون ستيوارت مل (1806-1873). بنثام لخص أهدافنا الأخلاقية بـ «أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس». بكلمة اخرى، تدّعي النفعية أن الفعل يكون صائباً أخلاقياً حينما يضيف لكمية السعادة الكلية في العالم، عبر تعظيم المتعة وتقليل الألم أو كليهما. هذا المقدار الكلي يجب أن يأخذ بالاعتبار ليس فقط المتعة والألم اللذين يشعر بهما الفرد وإنما كم هو عدد الناس الذين يشعرون بكمية المتعة أو الألم. وهكذا، المفكر النفعي قد يجد التعذيب المستمر لشخص ما مبرراً إذا كان يجلب السعادة لأكبر عدد من الناس. ورغم أن المتعة التي يشتقها كل فرد من التعذيب قليلة، لكن التراكم في سعادتهم يتجاوز كمية الألم الشديد الذي يشعر به الفرد تحت التعذيب.
بما أن النفعية يمكنها نظرياً أن تقودنا إلى مواقف مثل سيناريو التعذيب الذي يبدو يحرض على ارتكاب اللاعدالة، ولأجل بعض المزايا الكبيرة، سعى بعض المفكرين النفعيين لإجراء تعديل بسيط في الافتراض الأصلي لبنثام. محاولة كهذه قام بها ريتشارد ريدر في مقال له بعنوان (الألمية مقابل النفعية) عام 2009 أوضح فيه اتجاهه الألمي في النفعية على الشكل التالي:
«الألم والمتعة لكل فرد يتم احتسابها، لكنه لا يمكن تجميعهما كتراكم لكل الأفراد. لذا فإنه من المبرر السماح بألم بسيط لفرد واحد لكي نقلل الألم الأكبر لفرد آخر، ولكن من غير الجائز أبداً إضافة الألم والمتع لعدة افراد في حساب كهذا. أفضل طريقة لحساب نسبة السوء في الموقف هي عبر كمية الألم الذي يشعر به أكثر الناس المتأثرين به. معاناة كل فرد تعني حقاً، بينما مجموع المعاناة عبر الأفراد هي بلا معنى.
الألمية لا تهتم بالمجموع الكلي للسعادة أو الألم فهي تركز على كثافة الألم لدى الفرد. هذا يتجنب السيناريوهات غير العادلة مثل سيناريو التعذيب. نحن لا نستطيع تعذيب شخص ما لأجل سعادة بسيطة للكثيرين. بدلاً من ذلك نحن نقارن كثافة الألم للشخص تحت التعذيب بالمتعة القليلة للمراقب الفرد، ونكتشف أن المتعة لا تفوق الألم. الألمية إذا هي صيغة من النفعية تركز على الفرد. ولكن الأكثر أهمية أنها صيغة هدفها الرئيسي تقليل الألم بدلاً من تعظيم المتعة.
أي من هذين النظامين هو الأفضل في التعامل مع أشخاص المستقبل؟
الألمية تحقق فوزاً على النفعية الكلاسيكية كأخلاق للمستقبل عبر التركيز على تقليل الألم بدلاً من تعظيم المتعة. نرى أنه من المعقول القلق على ما يشعر به أبناء المستقبل من ألم نتيجة أفعالنا قياساً بما يشعرون به من متعة. لا نعني أن نكون متشائمين ولا ندّعي عدم قدرتنا على جلب السعادة لجيل المستقبل. بل ما نقصده هو أن الألم شعور أكثر استمرارية وأقل تكيفاً من السعادة، لذا من السهل التنبؤ به أو السماح به عند التخطيط لأفعالنا الحالية. وبكلمة أخرى، يبدو أن الأشياء المسببة للألم لا تتغير كثيراً من جيل إلى آخر، بينما الأشياء المسببة للفرح تتغير كثيراً. لو نظرنا مثلاً إلى بعض الأشياء التي تجلب السعادة تتضمن الموسيقى المفضلة، الكتاب، الأغنية، برامج تلفزيونية. الآن لنسأل أنفسنا: أي من هذه الاشياء تجعل الأجيال اللاحقة سعيدة؟ الطالب الذي يدرس في الجامعة لا يهتم للذوق الموسيقي لأستاذه.
الآن لننظر في الأشياء التي تجعلنا غير سعداء أو التي تسبب الألم وهي تتضمن الفقر، المرض، الحروب، المجاعة، الكوارث. نميل للاعتقاد أن هذه الأشياء تسبب الألم لصغار السن وكذلك لمن لم يولدوا بعد. ولذلك، إذا أردنا أن نعمل جيداً لشعوب المستقبل، فمن الأفضل التركيز على تقليل آلامهم، لأننا سننجح في ذلك أكثر مما لو ركزنا على محاولة جعلهم سعداء.
والدليل الآخر على تفوّق الألمية هو أن نفعية بنثام تبدو كما لو أنها تتناسب مع الأفراد الموجودين. افتراضها الأساسي هو أنه يجب علينا تعظيم المتعة، لكن المتعة هي شعور موجود فقط في الذهن. نحن لا نستطيع التحدث حول سعادة أفراد المستقبل في هذه الصياغة لأنهم غير موجودين، ولذلك لا يشعرون بأي شيء. كذلك، نحن لا نعرف أي شيء عما يشعر به أفراد المستقبل وعما إذا كانوا موجودين وكم عددهم.
وهكذا عندما يقبل بنثام أننا يجب أن نعظّم السعادة، فهو يطلب منا أن نعظّم السعادة للأفراد الموجودين حالياً أو أولئك الأفراد الذي نعرف أنهم سيكونون موجودين بحيث نستطيع حساب سعادتهم بدقة. وفي النتيجة، النفعية الكلاسيكية لا تبدو أنها تتعامل بشكل جيد مع الأفراد المحتملين.
الألمية تحاول أن تتجنب هذا المأزق. إنها تبدو للوهلة الأولى وكأنها تسقط في نفس الفخ في حاجتها للتحدث عن شعور حقيقي ومعروف للألم والمتعة، وبهذا هي ليست قادرة على حساب المستقبل. لكن الألمية ترتكز في أحكامها الأخلاقية ليس فقط على المشاعر الحقيقية، وإنما أيضاً على المشاعر المحتملة، ولهذا فهي تتحدث سلفاً عن المواقف المحتملة للذهن. ولكي نرى هذا لننظر في الصياغة الدقيقة للألمية التي وضعها ريدر:
1- الشخص س يشعر بالألم س
2- الشخص ص يشعر بالألم ص
3- ولكن لا أحد يشعر بـ س + ص.
ولذلك س+ ص هي بلا معنى.
الافتراض الثالث يُعد أساسياً هنا، هو يحتوي على افتراضين اثنين مختلفين. الأول هو أن لا أحد يشعر حقاً بكل من ألم س وألم ص في وقت واحد. الافتراض الثاني هو لا أحد يمكنه الشعور بالألم س و ص في وقت واحد. ولهذا، مع الألمية نحن لا نتحدث فقط عن المشاعر الحقيقية وإنما أيضاً عن المشاعر المحتملة.
التاريخ: الثلاثاء 5-3-2019
رقم العدد : 16924