محي الدين الحمصي في ثقافي أبو رمانة.. تعبيريــــــة التحويـــــــــر والخطـــــــوط العفويـــــــة..
قد تشكل قراءتي لمعرض الفنان محي الدين الحمصي، في ثقافي أبو رمانة, خطوة في اتجاه البحث عن أرض الطفولة والذكريات والإشارات التاريخية، وهو يركز لإظهار الوجوه الواجمة والحزينة والكئيبة، في خطوات التعبير عن مشاعر الغربة والأحلام الضائعة, فوق سواد الحرائق والدخان، المتصاعد من ركامات المدن المدمرة والمنكوبة والمحاصرة، بالخوف والقلق والتوتر والاضطراب والتشنج والترقب.
تداخلات الخطوط
ومن هذا المنطلق يثير المعرض نقاشاً ثقافياً, بقدر مايكشف عن تموجات المشاعر الداخلية، في خطوات بحثه عن إيقاعات تشكيلية بانورامية, كل ذلك بلغة فنية تشكيلية بحتة، لاتقع في هاوية الخطاب التقريري والأدبي والسردي, وانما تترك لأصداء الحوار التشكيلي البصري, مساحة من الحرية التعبيرية والفنية والتقنية، نحن هنا أمام أجساد نسائية يأخذها إلى حالة تعبيرية لا تتوقف عند معالجة تفاصيل الأشكال بقدر ما تذهب للتحريف والتحوير والتأويل.
وحركة الخطوط العفوية والإنسيابية التي يجريها, تذهب إلى إثبات الحضور الفني, الذي يحول اللوحة إلى فسحة بحث تشكيلي، والمعرض يؤكد بحثه التقني وملامح تنقله, من رقة النعومة في معالجة السطوح, الى إضفاء المزيد من الكثافة والتنفير اللوني، باعتماد عجائن التأسيس والورق الناعم, من دون ان يخرج عن مناخه الأسلوبي والتشكيلي، الذي يتكرس ويتوضح من معرض إلى آخر.
فمن الناحية التشكيلية يبدأ من منطلق التمرد والرفض لأسلوب الرسم الواقعي والتسجيلي، وهو يمارس حريته في إبراز حركة الخطوط العفوية المنسابة بدرجات خفيفة من اللون الأسود, ويفتح أمدية داخلية, بطريقة تحوير العناصر والأشكال وتكثيف اللون وتشفيفه في لوحات بقياسات جدارية، ومتوسطة، في وقت يستطيع فيه أن يحافظ على مساحات وحركات العناصر والإشارات، التي تبرز في أحيان كثيرة كرؤى أسطورية مرتبطة بالتاريخ السوري القديم.
كيميائية اللون
وأعماله المعروضة، منفذة جميعها خلال العام الماضي والحالي, وتبدو في بعض مظاهرها وإيماءاتها الرمزية والخيالية والاسطورية, مشرعة على احتمالات التنقل بين التأثيرات البصرية المختلفة، والسطوح المنفذة بوسائل تقنية، تدخل فيها الألوان التي يركبها بخبرته الخاصة، وبمعرفته بكيميائية اللون، مع التركيز لإظهار حركة الأشكال المحورة والمحرفة (الوجوه والأجساد والطيور والأسماء والطبيعة والأسماك وغيرها).
ويتجه إلى معالجة عناصر المرأة الرمز، ويجعل المساحات اللونية المعتمة تتداخل مع مساحات البياض، مع إعطاء أهمية للأشجار التي يقدمها بخطوط دائرية وبيضاوية، في حين يشكل جذوعها بخطوط عفوية مستقيمة، وهو في ذلك يعمل على إظهار التوازن والتوافق بين المساحات الخافتة والمساحات الساطعة الإضاءة، وعلى هذا يبحث عن تشكيل تعبيري يكشف الجوهر، ويبتعد عن المظهر الملموس أو المنظور في الواقع المرئي.
هكذا يقدم محي الدين الحمصي في تشكيلاته التعبيرية الحديثة, عناصر تاريخية اسطورية بصياغة فنية, تهتم بإبراز «الكونتراست اللوني» وتصل حدود التتابع الرمزي الخيالي, فاللوحة بالنسبة إليه تبدو بمثابة محطة حوارية بين الماضي والحاضر، وثنائية التراث والمعاصرة, وتبرز قيمة التشكيلات هنا في الحساسية المتمادية في التحوير، إلى درجة تجاوز المعايير التشريحية، والتعبير أحياناً ببعض الحركات الزخرفية والرموز الفولكلورية, وهذه المعادلة تتطلبها الأعمال الفنية الحديثة والصادقة, فالوعي وحده لايكفي, لا بد إذاً من الانفعال, وهو يتلافى وضع درجات لونية خارجة عن الأجواء المعتمدة في مجمل لوحاته، ومن ناحية أخرى يجعل البياض اللوني في لوحات عديدة، ستاراً شفافاً لطبقات لونية أخرى، مطلية به وظاهرة من خلاله، ونشاهد العناصر الإنسانية والحيوانية وعناصر الطبيعة وخاصة الأشجار قد أبتعدت عن المباشرة الخطابية، في تقديم الجو السردي التاريخي، القائم على مساحات هادئة ومتقاربة وغير صاخبة.
ابتعاد واقتراب
كما تبرز في تجربته مظاهر التنويع التقني للوصول إلى التأثيرات البصرية المطلوبة, وبالتالي النفاذ إلى أبجدية تشكيلية حديثة بعيدة عن الواقع، بقدر اقترابها من مظاهر الحداثة، ونرى في بعض لوحاته ما يشبه التشكيلات المبنية على عناصر ذاتية، بمعنى أنه حين يعمل على اظهارعوالمه البانورامية الحكائية الأسطورية, فإنه يتجاوز الدقة, ويذهب لإضفاء أجواء عفوية بحساسية خطية، تتجاوز السياق البصري الساكن والمقروء في الهندسة التشكيلية.
وعلى الصعيد الأسلوبي تتأرجح أعماله بين الصياغة التعبيرية المبسطة، والصياغة الرمزية والخيالية (الناتجة عن تداخل العناصر) واللوحة عنده تتشكل بخيالات وحساسيات مختلفة، وهذا ناتج عن هاجس الاختبار الدائم والمتواصل، فالالتفافات السريعة والسطوح المتنوعة التأثيرات والحساسيات, والمرتبطة بثقافة فنون القرن الماضي والحالي.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الثلاثاء 12-3-2019
رقم العدد : 16929