لم يكن لذلك اليوم بقسمه الأخير أي وصف سوى اكتظاظه بالشجن والشغف والضياع.
كان برد دمشق قارساً أضاف للروح مزيداً من الصقيع الذي يلفها، فإذا الجو وما يكتنفه كله ينذر بنهاية لحياة ما.. كانت «أمينة» قد أنهت شغلها وتوجهت عائدة لمحافظتها، وكأنه آخر يوم ليس فقط قد ترى فيه دمشق ثانية بل كأنه آخر يوم في حياتها.
يقولون المنفى أصعب من الموت وأقسى من التهجير، هو الاثنان معا، لكن أن تكون منفيا داخل وطنك داخل أهلك داخل روحك فهذا هو المنفى الأشد قسوة.
أخذ الركاب يصعدون الحافلة، بينما «أمينة» تتقرى الوجوه من حولها, وتحاول أن تستطلع من قد يكون بجانبها منهم لتتبادل معه الحديث فهي بحاجة لأن تخرج مايثقل عليها روحها, ومايبدد عنها وحشة ووحدة وألم الطريق الطويل.. جلست إلى جانب صبية، حيث المكان المخصص لها، تعارفتا، وإذ بها من المحافظة نفسها وقد أنهت عملها في دمشق عائدة لمحافظتها هي الأخرى، وبدأ الحديث وكان ذا شجون، كانت شهقة وصدمة «أمينة» عميقة عندما علمت بأن رفيقة سفرتها قد توفي زوجها وهي أم لطفلين باتا الآن في الجامعة، وكيف كانت تتحدث عن الحياة بقلب رحيب وبإيجابية وابتسامة مفرطة في الأمل، توقفت الحافلة عند أحد المواقف ليصعد شابان فيقومان بإنزال شاب كان يجلس بمحاذاتهما, وهو عاجز عن تحريك طرفيه السفليين بعد إصابة في إحدى المعارك مؤخرا على إحدى الجبهات السورية.
لم يترك لها القدر فرصة أخرى لتقليب مواجعها، بل تأملت كيف أن الحياة يجب أن تواجه بشراسة الأمل تماما بنفس القدر الذي تأتي فيه بشراسة الألم.
ليس ثمَّة في الحياة ما يستطيع أن يعوض عن الكرامة لمن تعنيه الكرامة بالمقام الأول في الحياة.
نزلت في محطتها الأخيرة، هي تدون على ذاكرة روحها مادة لمقال قادم تقول: لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، فسأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على الأرض، عارية الروح.. سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق, ولسوف لن أعطي الطفـل الأجنحة فقط بل سأدعه يتعلّم التحليق وحده.. وللكهول سأعلّمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان.. لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر، تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه.. تعلّمت أن المولود الجديد حين يشد على إصبع أبيه للمرّة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد.. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف.. تعلمت منكم أشياء كثيرة.
لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراك فيها يا أخي لكنت ضممتك بشدة بين ذراعيّ, ولتضرعت إلى الله أن يجعلني حارساً لروحك.. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها، لقلت «أحبك» ولتجاهلت بخجل، أنك تعرف ذلك !
هناك دوماً يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئة وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأنني لن أنساك أبداً.. لأن الغد ليس مضموناً أن أحياه، ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم، فلا تنتظر أكثر؛ تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو قبلة، أو أنك كنت مشغولاً كي ترسل لهم أمنية أخيرة.. حافظ بقربك على مَنْ تحب اهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكراً، وكل كلمات الحب التي تعرفها.. لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها، وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك..
هذه هي ثقافة الحياة التي يجب أن تكون ألف باء دربنا الطويل في الحياة.
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 29-3-2019
الرقم: 16943