لا يتصرف الرئيس الأميركي أو يتخذ قراراته عبثاً أو بالمصادفة أو المزاج كما يحلو للبعض وصف سلوكه وسياساته التي تبدو خارج السياق الطبيعي لآليات القرار في الإدارة الأميركية، فالحقيقة التي يجب التوقف عندها وقراءتها هي أن الرئيس ترامب ينطلق من فلسفة سياسية يؤمن بها ويسعى لتكريسها نهجاً في تعامل أميركا مع المنظومة الدولية وترتكز على مبدأين أساسيين هما الإدارة بالفوضى، والإدارة بفائض قوة رأس المال والقوة العسكرية، ولعل ما دفع الرئيس ترامب لاختيار ذلك النهج وتلك الفلسفة هو الوضع الدولي الذي تشكل خلال السنوات العشر الماضية والمتمثل في صعود قوى عسكرية واقتصادية وسياسية منافسة للولايات المتحدة الأميركية التي اعتقدت أنها أصبحت سيدة العالم بلا منازع بعد سقوط وتحلل الاتحاد السوفياتي السابق وانهيار المنظومة الاشتراكية وما تلا ذلك من تمهيد إيديولوجي لمنظري المحافظين الجدد والعولمة كسياق اقتصادي وثقافي سواء كان ليو شتراوس أو صموئيل هاتنتغتون وصولاً لفرانسيس فوكو ياما الذي أقفل التاريخ بنموذج أميركي يجب اقتفاؤه لأنه بزعمه الصورة المثلى للتطور البشري وسقفه المعرفة والحرية.
ومع خوض أميركا لحربين مكلفتين في أفغانستان والعراق متساوقاً مع نزعة هيمنة غير مسبوقة وسطوة على المشهد الدولي ومنظماته سواء مجلس الأمن أم غيره من مؤسسات معنية بحفظ الأمن والسلم الدوليين برزت كردة فعل على ذلك قوى رافضة لفكرة الهيمنة وداعية لشراكة في قيادة العالم تقوم على تقاسم المنافع والتوازن في العلاقات الدولية واحترام سيادة الدول وإعمال ميثاق الأمم المتحدة ليكون الفيصل في ذلك وعلى التوازي مع تلك الدعوات التي وجدت صدى طيباً على المستوى الدولي صعد نجم كل من جمهورية الصين الشعبية كقوة اقتصادية فاعلة وروسيا كقوة عسكرية واقتصادية تسعى لاستعادة دورها في المشهد الدولي مستندة إضافة إلى ما سبق إلى إرث طيب خلفته الحقبة السوفياتية وتجربتها الاشتراكية كما برزت على السطح قوى إقليمية ودولية لها وزنها وثقلها الاقتصادي والسياسي والعسكري كالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وإيران أصبحت تشكل صداعاً سياسياً للأميركي الذي اعتقد أنه قد أمسك بتلابيب اللعبة الدولية وبدأت تلك القوى المشار إليها تواجه الأميركي في أكثر من ساحة سواء أكان مجلس الأمن أم المنظمات الأخرى إضافة إلى بؤر الصراع العسكري بأشكاله المختلفة وتلحق بالأميركي هزائم أو تحول دون تحقيقه نجاحات كان يأملها، ولعل الفترة الثانية من ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما كانت الصورة الأكثر تعبيراً عن ذلك ما جعل تيار المحافظين الجدد المتجذر في المؤسسات الأميركية ينعته بالضعيف والمتردد الذي أفقد إمبراطورية العم سام هيبتها.
وفي ظل تلك المناخات وصل الرئيس دونالد ترامب وهو رجل الأعمال إلى سدة البيت الأبيض متبنياً خطاباً شعبوياً من جهة ومتغطرساً من جهة أخرى استجمع جمهوراً واسعاً سواء على مستوى الشارع الأبيض أم لجهة كارتلات وترموستات المال إضافة إلى دغدغته لمشاعر اللوبي اليهودي المتغلغل في مفاصل الحياة الأميركية مستهلاً ولايته الدستورية بخطاب ناري يتحدث عن أميركا أولاً متباكياً على مكانة بددها أوباما وإدارته الضعيفة حسب زعمه متعهداً باستعادة دور أميركا المهيمنة على العالم عبر معطى فائض القوتين المالية والعسكرية، ضارباً عرض الحائط بكل المواثيق الدولية ومستهتراً بالمنظمات الدولية وغير آبه حتى بالمؤسسات السيادية الأميركية ذاتها بما فيها الكونغرس والبنتاغون ووكالة المخابرات الأميركية والمنظومة الإعلامية التي اعتبرها معادية له ولسياساته لذلك نراه أدار ظهره لها جميعاً واعتمد دبلوماسية التغريدات عبر تويتر متجاهلاً كل ما عدا ذلك من وسائل إعلام تقليدية.
من خلال ما سبقت الإشارة إليه وملاحظة سياسة ترامب وطريقة إدارته للشأن السياسي الأميركي يمكننا الاستنتاج أننا أمام حالة أو نموذج غير مسبوق في البيت الأبيض وأننا أمام رئيس لا يبالي بالمؤسسات الدولية والتزاماتها ومواثيقها ولا بالتزامات أميركا كدولة، والدليل على ذلك ما جرى بالاتفاق النووي مع إيران والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وأخيراً وليس آخراً اعترافه بما سمي السيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل وهو في كل ما جرت الإشارة إليه يخالف القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية ما يعني أمام رئيس له أجندته الخاصة يسعى لتكريس مسألتين أساسيتين في العلاقات الدولية، وهما قوة السلاح وقوة المال بدل القانون الدولي والمؤسسات الدولية ومبدأ السيادة لقناعته بأن أميركا لم تعد تتحكم بمجلس الأمن وقراراته أو بالمنظمات الأخرى المنبثقة عن هيئة الأمم المتحدة، وهنا عليها أن تمارس قوتها الاقتصادية والعسكرية لتتحكم بالعالم أو تبتزه عبر التهديد بالقوة العسكرية أو المالية ووقودها الدولار الأميركي السلاح الجديد القديم.
إن ترامب القادم من أوساط رجال الأعمال والمال يرى في أميركا شركة اقتصادية ومؤسسة أمنية للحماية مقابل المال وقوتها واستمرار نفوذها يستدعي إعلانها (بلاك ووتر) والتعامل معها وفق تلك الصورة والنموذج ولعل أول من سلم بذلك دول الخليج العربي بإغدافها المليارات عليه في زيارته لها قبل عام ونيف وما تلا ذلك من أشكال ابتزاز مالي وبلطجة سياسية عبر عنها في أكثر من موقف ولعل سياسة القوة التي يتبعها ترامب ستصيبه بعقدة ثيوسيددس أي الشعور بفائض القوة الذي يؤدي بالنتيجة إلى الدمار كما جرى بين أثينا واسبارطه قديماً، وحديثاً ألمانيا والحلفاء، وتالياً العراق والكويت، فقد أتى فائض القوة الذي استخدم بشكل خاطئ في الأمثلة الثلاثة على من باشره وأجهز على بلدانه فهل يتعظ ترامب؟
khalaf.almuftah@gmail.com
د. خلف المفتاح
التاريخ: الأثنين 1-4-2019
رقم العدد : 16945