ثورة أون لاين – بقلم: د.محمود السيد
جميل جداً أن يخصص يوم للاحتفال باللغة العربية وقد حددت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو ) الأول من آذار من كل عام يوماًَ لذلك الاحتفال وكانت المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو قد حددت الواحد والعشرين من شباط من كل عام للاحتفال بيوم اللغة الأم ولغتنا الأم هي العربية الفصيحة على الصعيد العربي.
وقد يسأل سائل : لِمَ كانت العربية الفصيحة هي اللغة الأم دون غيرها؟
والواقع يدل على أن الأم تحنو على أبنائها وتحوطهم بالرعاية والعطف والحنان والمحبة والاهتمام ، وكذلك هي لغتنا الأم (العربية الفصيحة) توحد بين أبنائها وتضمهم في بوتقة اللقاء الروحي والمحبة والتفاهم مادامت اللهجات العامية تفرق بين أصقاع الأمة ، في حين أن الفصيحة توحّد وتجمع.
ولغتنا الأم ( العربية الفصيحة)
هي هويتنا وذاكرة أمتنا وجسرها للعبور من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى المستقبل، ذلك لأن اللغة والهوية وجهان لعملة واحدة، إذ ليس الإنسان في جوهره إلالغة وهوية: اللغة فكره ولسانه وفي الوقت نفسه انتماؤه، وهذه كلها تكوّن هويته ، فهويتنا العربية هي انتماء إلى لغتنا العربية وتاريخنا العربي وأرضنا العربية وقرآننا العربي.
وغني عن البيان أن لغتنا العربية هي التي عاشت تاريخنا وطبعت بالعروبة حضارتنا وحوت ثقافتنا ووحدّت ألسنتنا وأقلامنا وهي قلعتنا الحصينة للذود عن هويتنا وذاتيتنا الثقافية ووحدتنا القومية وإن في إهمالنا لها اجتثاثاً لشخصيتنا من مسارها التاريخي ومن ثقافة مجتمعنا، فتغدو هذه الشخصية دون هوية ويضيع طابعها وتمحى ملامحها.
ولغتنا العربية ذات أبعاد متعددة فهي من الناحية القومية تجمع بين أبناء الأمة العربية أفقياً كما تجمع عمودياً مادامت هي الرباط القومي الموحِّد والموحَّد، وهي من الناحية الدينية وسيلة العربي لفهم دينه وعقيدته مادامت هي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، والقرآن الكريم هو الذي صان هذه اللغة وحفظها من الضياع، وصانها من الاضمحلال والزوال مع كثرة الكوارث التي اجتاحت الأمة والأرزاء والنكبات التي ابتليت بها عبرالعصور، وما الفضل في صمود اللغة العربية أمام الهجمات الشرسة التي تعرضت لها الأمة والتحديات القاسية التي واجهتها عبر مسيرتها إلا للقرآن الكريم، ذلك الكتاب العربي المبين الذي نزل به الروح الأمين على قلب الرسول العربي الكريم أيةً لنبوته وتأييداً لدعوته ودستوراً لأمته.
ويولي علينا الاحتفال بيوم اللغة الأم ويوم اللغة العربية أن نكون واعين بالتحديات التي تواجهها لغتنا العربية في عصرنا الحالي، إذ إنها تواجه تحديات جمة على الصعيدين العربي والعالمي، فهنالافجوة بين العربية ومجتمع المعرفة، فنسبة حضورها على الشابكة (الانترنت) ضئيلة لاتتجاوز 2٪ ناهيك عن تعدد مواصفات محارفها، في الوقت الذي نرى فيه أن محارف اللغات الحية الأخرى قد اعتمدت مواصفاتها، فرضته رسمياً ولم يتحقق ذلك عربياً.
وتجدر الإشارة إلى أن تعدد المواصفات يؤدي إلى إشكالات في الشابكة وفي البحث في قواعد المعطيات وفي الإعلام، ويسبب العديد من الإشكالات في مجالات تعرف الحروف العربية والمدقق الإملائي، والمدقق الصرفي، والمدقق النحوي، وفي التحليل والتركيب وتوليد النص الآلي، والترجمة بين اللغات وتعرف الكلام وتركيبه والفهم الآلي للنص..الخ.
ولايفوتنا أن نشبر إلى أن ثمة تلكؤاً في مواكبة المستجدات العالمية والتفجر المعرفي، ولم تتمكن مجامع اللغة العربية على الرغم من الجهود التي تبذلها في وضع المصطلحات العربية مقابل المصطلحات الأجنبية، من مواكبة ذلك التفجر المعرفي، ولم تقم الجامعات العربية بدورها في هذا المجال مادام التدريس في هذه الجامعات باللغة الأجنبية في الأعم الأغلب.
ومن الملاحظ أن ثمة خللاً بين شريحتين في المجتمع العربي الواحد وفي البلد الواحد أحياناً، يقال عن الأولى إنهافي غربة معرفية، ويقال عن الثانية إنها في غربة عن الانتماء، وإذ اظلت كل شريحة متمسكة بمنهجها فإن في ذلك انعكاساً سلبياً على اللغة العربية، إذ لابد من تعزيز الانتماء إلى لغتنا الأم (العربية الفصيحة) رمز كياننا القومي، وعنوان شخصيتنا العربية، ولغة قرآننا الكريم وتراثنا الحضاري.
وفي الوقت نفسه لابد من إتقان اللغات الأجنبية بغية الاطلاع على ثقافات الأمم الأخرى والتمكن من لغاتها الحية، لأن في ذلك إغناءً للغتنا العربية، وإن الخطر يتجلى في استبعاد العربية وتهميشها واعتماد اللغات الأجنبية مكانها في العملية التعليمية من جهة، وفي شؤون الإعلانات والتوظيف والاستعمال من جهة أخرى.
وإذا كان من متطلبات العصر الحالي أن يتسم المرء بالمرونة في التفكير فالذي نلاحظه على نطاق الساحة القومية أن نفراً من اللغويين المتشددين يظنون أنهم في تشددهم يحمون اللغة فيحولون دون أي تجديد أو تيسير وينظرون إلى التراث بكل مافيه نظرة القداسة، وإذا هم بعملهم هذا ينفرون الناس اللغة من كثرة ما يقولون لهم هذا خطأ، حتى بات الناس يخافون من النطق على حد تعبير المجمعي المرحوم محمد كامل حسين عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة.
إن الحرص على سلامة اللغة واجب على كل منا، وإن الدعوة إلى التيسير والتسهيل في سيرورة اللغة السليمة من حيث الطرائق والأساليب واجب أيضاً، على ألا يكون في هذا التيسير خروجاً عن نظام اللغة وقواعدها.
إننا ونحن نحتفل بيوم اللغة العربية ويوم اللغة الأم لابد لنا من الإشارة إلى مشكلة تعاني منها لغتنا العربية على الصعيدين الوطني والقومي، وتتجلى هذه المشكلة في غياب السياسة اللغوية مع أن دساتير الدول العربية تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية المعتمدة في الدول إلا أن هنالك هوة بين ما تنص عليه الدساتير وما يطبق على أرض الواقع.
ولقد أدى غياب السياسة اللغوية إلى غياب التخطيط اللغوي، وقد كانت سورية من بين الدول العربية متميزة على الصعيد القومي في وضع سياسة لغوية اعتمدتها ونفذتها منذ ما يقرب من قرن عندما بدأت التدريس بالعربية في كليتي الحقوق والطب في أواخر العقد الثاني من القرن الماضي، وعندما أنشأت مجمع اللغة العربية الذي يعد أبا المجامع اللغوية العربية، في ذلك التاريخ أيضاً وسادت العربية في التدريس في سائر الكليات التي افتتحت بعد ذلك و عندما قررت تدريس اللغة العربية لغير المختصين في المعاهد والكليات الجامعية وعندما شكلت لجنة للتمكين للغة العربية مهمتها وضع خطة عمل وطنية للتمكين للغة العربية والنهوض بها والارتقاء بها والمحافظة عليها ومتابعة تنفيذ تلك الخطة، وعندما قدمت بمشروع النهوض باللغة العربية للتوجه نحو مجتمع المعرفة إلى مؤتمر القمة العربي الذي عقد بدمشق عام 20٠8، وقد اعتمد المؤتمر هذا المشروع وقدم الشكر للجمهورية العربية السورية على مبادرتها لإطلاقه.
وإذا كانت سورية في مناسبة الاحتفال بهذين اليومين فإنها لتدعو أبناء الأمة كافة إلى التبصر بالمخاطر التي تواجهها لغتنا العربية ومن أبرزها مزاحمة اللغات الأجنبية لها في عدد من أصقاع وطننا العربي من جهة على النحو الذي نراه من حيث هيمنة الفرنسية في دول المغرب العربي، وهيمنة الانجليزية في دول الخليج العربي، ومزاحمة العاميات الدارجة للعربية وتدني مستوى الأداء اللغوي في قطاعي التعليم والإعلام حيث تسود العامية في البرامج التي تبث في أغلب القنوات الفضائيةالعربية وفي المسلسلات التلفزية، وتسود العامية على ألسنة أغلب المعلمين والمتعلمين في العملية التعليمية إن في التعليم ماقبل الجامعي أو في التعليم الجامعي من جهة أخرى.
أما أساليب الاحتفال بيومي اللغة الأم واللغة العربية فلا تقتصر على التوعية اللغوية من حيث تخصيص الحصة الأولى في هذين اليومين في المدارس للحديث عن الدور القومي للغتنا العربية وتبيان دورها على الصعيدين الفردي والاجتماعي، ولاتقتصر على إلقاء المحاضرات في المراكز الثقافية، وإنما لابد من تعزيز هذا الأسلوب وإجراء الحوارات وعقد الندوات في الإذاعة والتلفزة ونشر زوايا ومقالات في الصحف تعزز التوعية اللغوية أيضاً كما يعززه إجراء المسابقات اللغوية وتكريم الفائزين فيها، وتكريم الأعلام الذين خدموا لغتهم بإخلاص عبر بحوثهم ومؤلفاتهم، وإقامة معارض الكتب وتوفير الكتب بأرخص الأثمان وتنفيذ مشروعات رائدة للحث على القراءة الحرة ومعالجة مشكلات العزوف عنها.
وإذا كانت لجان التمكين للغة العربية في الوزارات المعنية وفي جميع المحافظات تقوم بدورها في عملية التمكين للغة فإن على أبناء الأمة كافة وكل في موقعه أن يكون معتزاً بلغته وواعياً بدورها، وكلما زاد وعي المواطن بلغته زاد وعيه القومي تفتحاً على أمته تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً وزاد شعوره بالانتماء إلى تراث أمته ثقافة، وإلى عروبته انتساباً، وإلى هويته افتخاراً مادامت اللغة الأم هي الوطن الروحي للأمة وإذا فقد أي شعب لغته فقد هويته وانتماءه وفقد وطنه الروحي، ومتى فقدت الأمة روحها فقدت وجودها.
ومحبة اللغة الأم تدفع بأبناء الأمة إلى العناية بلغتهم جامعة شملهم وموحدة فكرهم ورؤاهم، وقد جاء في فقه اللغة للثعالبي: إن من أحب الله أحبّ نبيه العربي، ومن أحب النبي العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب اللغة العربية، ومن أحب اللغة العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها».
فلنكن بارين بلغتنا الأم العربية الفصيحة برنّا بأمهاتنا فلاشيء اسمى من الوفاء وما من شيء أمر من العقوق.!