كل الجماعات الإنسانية وعلى مرِّ التاريخ تنشأ وتتعدد أشكال الانتماء لديها، أي ارتباط الشخص بجماعة، وهذا أمر طبيعي تستدعيه طبيعة العلاقات التي تربط الإنسان بمحيطة، وتفرضه علاقات الإنتاج وشبكة المصالح وديمومة الحياة، وعامل الانتماء هذا تحدد ماهيته جملة عوامل يأتي في مقدمتها المستوى الحضاري للجماعة السياسية والثقافة العامة التي يتحلى بها أفرادها، ولعل دائرة الأسرة بمعناها الواسع أي الأسرة الجينية الأب والابن والأقارب هي أولى دوائر الانتماء اللاإرادي وتتسع الدائرة لتتجاوز ذلك حتى تصل إلى دائرة الاجتماع الجغرافي والجهوي أي مجتمع القرية والقبيلة وصولاً للمدينة والدولة بهويتها الجامعة وهذا يرتبط بالعامل الجغرافي حصراً، وإلى جانب ذلك تتشكل العديد من دوائر الانتماء كالدينية والعرقية والحزبية والمهنية وهذا يتحدد بطبيعة ومستوى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الجماعة السياسية ووعيها وثقافتها.
ولا شك أن الإنسان ينحاز بشكل طبيعي إلى دائرة من دوائر الانتماء تلك وغالباً ما تكون المسألة مرتبطة بالشعور العاطفي والرغبوي، وهذا يظهر عندما يواجه الشخص أو المجتمع تحديات ذات طبيعة وجودية أو مصيرية تنعكس على حياته بوصفه فرداً ينتمي إلى جماعة يشكل جزءاً منها وفي ذلك اختبار لمستوى وأولوية تلك الانتماءات وتغليب أي منها على الآخر هل يتغلب الانتماء الوطني على الديني والمذهبي، والوطني على الجهوي والقبلي، أو الحزبي على ما عداه وكذلك الأيديولوجي والعرقي وهلم جراً؟ ولا شك أنه في قراءة تراتبية لتلك الانتماءات يتقدم الإنساني على ما عداه لأنه انتماء عقلي متحرر من كل أشكال الانتماءات العاطفية، ثم يليه الانتماء الوطني والقومي لأن حامله غالباً ثقافي حضاري، وبعد ذلك تتوزع الانتماءات بين الديني والمذهبي والعرقي والحزبي والجهوي والقبلي وصولاً للانتماءات المهنية من نقابات ومنظمات وغيرها.
إن الانحياز إلى أي من هذه الانتماءات يعكس مستوى وطبيعة الثقافة المؤثرة في المجتمع وهي حتماً نتاج خطابات منبرية ونهج ونسق تربوي تعليمي يضاف إليه ثقافة يمتصها الشخص منذ طفولته المبكرة عبر دوائر الأسرة والمدرسة والمجتمع وصولاً للإعلام والأحزاب والمنابر الدينية مع التأكيد على الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام والفضائيات وشبكات التواصل من تأثير كبير في تحريك مشاعر الناس في هذا المجال عبر التحريض واستدعاء صور سلبية من التاريخ سواء أكان ذلك حقيقة أم وهماً، وهنا تتحرك العاطفة بشكل سلبي حيث يستحضر الموروث السلبي باللاشعور الجمعي فتظهر التحيزات الاجتماعية اللاعقلانية لتفعل فعلها خاصة عندما تتشكل بيئة من الخوف أو المخاوف الجماعية في فترات الحروب والنزاعات والصراعات الداخلية.
إن ما يضعف الانتماءات الضيقة ويحد من مؤثراتها ويساهم في خلق بيئة استقرار اجتماعي ويعزز من الهوية الجامعة ويرفع من المنسوب الوطني هو عملية التنمية الشاملة في المجتمع وعلى كافة الصعد الاقتصادية والاجتماعية وانتهاج سياسة تربوية تركز على بناء الشخصية الوطنية من خلال تكريس ثقافة حب الوطن والأرض والاعتزاز بالتاريخ وإبراز رموزه الوطنية وكفاح الشعب دفاعاً عن الوطن وتعزيز روح المحبة بين المواطنين وإبراز ملامح الشعب الحضارية ودوره التاريخي وإبداعاته الحضارية والتعريف بالعدو التاريخي والاستعداد العالي لمواجهته دفاعاً عن الوطن والتركيز على الهوية الجامعة القائمة على قواسم مشتركة حضارية وثقافية ما يساهم في رفع سوية الوعي وتعزيز الروح الوطنية، يضاف إلى ذلك تكريس مبدأ العدالة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص فاتباع هكذا سياسات يساهم في تعزيز مبدأ المساواة بين الناس على قاعدة الحقوق والواجبات ويوفر بيئة السلم الأهلي قاعدة الارتكاز في مواجهة الملمات والتحديات والأساس المتين في عملية النهضة الشاملة والتطوير الحقيقي وبناء الدولة العصرية والمجتمع المتحرر من كل أشكال الانتماءات الضيقة.
د.خلف علي المفتاح
khalaf.almuftah@gmail.com
التاريخ: الأثنين 29-4-2019
رقم العدد : 16966