أطفال على حافة الضياع .. من ينقذهم؟

كان يتنقل من ركن إلى آخر بجسد طفل و همة كهل أثقلت ظهره هموم الحياة ، فأحنت قامته و أوهنت حركته و حارت بنظراته نحو شرود يلتهم ساحة أفكاره المتخمة بالهموم ، في حين كانت الالفاظ البذيئة تنهمر من لسانه بكل سلاطة و فظاظة ، و يداه تمارسان عراكا و تدافعاً مع أقرانه ، اقترب مني و كانت سيدة تشاركني استراحتي بجانب الجامع الأموي ، و قد خلته متسولا يستجدي مالا أو سارقا صغيرا ، فقبضت على حقيبتي حرصا من خفة يد محتملة .
و لكن طلبه كان صادما لجدار طفولة ، ربما خرج من خلف أسواره باكرا فهجر مقاعد مدرسة ، و انطلق ليمارس فنون أولاد شوارع ، بعيدا عن عين رقيب و رعاية والدية أفقدها الفقر همة حرص و مسؤولية أبوية ، و سلب منها الجهل أساليب تربية و تنشئة و تقويم و توجيه و إصلاح. « اعطيني سيجارة « قالها متوجها بالحديث للسيدة التي كانت بقربي و هي تنفث دخان سيجارتها في الهواء ، ربما فتحت شهيته الصغيرة باكرا على التدخين كانحراف و خطوة أولى نحو التحرر من ضوابط و خطوط حمراء ، و حرضت أفكاره الضائعة في عالم الكبار فشغلته عن اللعب و اللهو كطفل ، و الانصراف عن تعلم و دراسة كتلميذ متسرب من عملية تربوية ، لتسول و عمالة مبكرة تسلبه أعظم حقوقه كطفل في طور نمو جسدي و تطور عقلي و نفسي .
استغربت طلبه و أنا أطالع قامته الصغيرة بينما تصدمني نظراته الجريئة التي تكاد تجلدنا ، و كأنه لم يقارب البراءة و لا يخبر عفوية الأطفال فسألته كم يبلغ من العمر فأجاب « ستة عشر عاما «، بينما هو في حقيقة أمره لا يتجاوز العاشرة ، ما حرضني لدخول عالمه و استيضاح وضعه و منشئه ، و لكنه كان مصرا أنه قد تجاوز العاشرة ، و قال أنه يدخن منذ سنتين و بعلم والده الذي أقعده المرض في البيت فيقول له « دخن و لا يهمك « .
محمد يعمل مساء في تجهيز الأراكيل للزبائن على مسطح أخضر في منطقة الزاهرة الجديدة ، و قد أخرجه الفقر و الجهل و تبعات حرب قسرا إلى الشارع ، ليكون مشروع قنبلة خطيرة ربما تنفجر في أي لحظة ، ففي عالم الكبار يتم تلقينه فنون النصب و الاحتيال و أساليب التسول و ربما السرقة ، في استغلال لبراءته و سذاجته كطفل لم يخبر بعد خباثة و مكر بعضهم و قد يستغل ليكون فيما بعد أداة من أدوات الجريمة و إلحاق الأذى بالمجتمع الذي يعيش فيه .
تقول السيدة مادلين التي كانت جالسة بقربي: أين أهله؟ غريب أمر هكذا أهل ينجبون و يلقون بالشارع !! إن كانوا غير قادرين على تربية أطفال و إعدادهم ليكونوا صالحين مفيدين للمجتمع لماذا ينجبون ، الفقر ليس مبررا لعدم رعاية الأبناء فهناك الكثير من الفقراء يربون أطفالهم تربية صالحة و يكونوا طلابا ناجحين بل و متفوقين ، السبب هو عدم الوعي و فقدان الاحساس بالمسؤولية الأسرية ، و الجهل بخطورة تواجد أبنائهم بعيدا عن رقابتهم لمجرد أن يعمل أطفالهم ليجلبوا المال ، بينما يغرق الآباء في عالم التراخي و البطالة ، و الاعتماد على أطفالهم بعد إطلاقهم إلى الشارع كمتسولين يستجدون المارة ، أو ينخرطون في عمالة مبكرة تجعلهم في عالم الكبار عرضة لتشويه أخلاقي أو اكتساب عادات سيئة.
تدخل رجل كبير السن في الحديث ، بينما ما زال محمد واقفا على أمل أن يحظى بسيجارة محاولا إقناع السيدة بأن تعطيه واحدة فقط ، يقول أبو خالد: « طفل مثل الفل لو كان له أهل واعون و تهيأت له ظروف مناسبة و بيئة حاضنة تكون صالحة ، ربما سيكون مستقبلا شابا ناجحا ، قد يصبح طبيبا أو مهندسا أو محاميا و ربما مخترعا ، حرام يضيع هكذا طفل ذو بنية جسدية جيدة و قدرات عقلية ذكية تهدر في أساليب ملتوية .
نحن الذين نعد أطفالنا لما سيكونون عليه مستقبلا ، و بين النجاح الذي تؤسس له التربية الصالحة و الإعداد الجيد و التوجيه الصحيح ، و بين فشل و ضياع و انهدام نفسي و تشوه أخلاقي ، يوهب له تملص من المسؤولية و التهرب من الرعاية الأسرية بحجة فقر و ظروف قاهرة ، يتم رسم ملامح مستقبل أطفال بين أبيض و أسود ، هم عناصر في لوحة مجتمع وعدة لمستقبله و ازدهاره .

منال السماك
التاريخ: الأربعاء 22-5-2019
الرقم: 16983

 

 

آخر الأخبار
أصواتكم تصنع المستقبل جلسة "الكونغرس" حول "قانون قيصر" تُرحَّل لوقت آخر أثر الندرة المائية على استقرار الأمن الغذائي.. هل ننجح بتجاوز الأزمة؟ الآزوري إلى نصف نهائي كأس ديفيز نيس و مارسيليا يفتتحان المرحلة (13) من الليغ آن الدوري الإسباني.. جولة جديدة تعد بالإثارة تعديل موعد انطلاق دوري سلة السيدات تعادلان في دورة (حلب ست الكل) الكروية بانة العابد تفوز بجائزة السلام الدولية للأطفال 2025   لبنانيون يشاركون في حملة " فجر القصير"  بحمص  ابتكارات طلابية تحاكي سوق العمل في معرض تقاني دمشق  الخارجية تدين زيارة نتنياهو للجنوب السوري وتعتبرها انتهاكاً للسيادة  مندوب سوريا من مجلس الأمن: إسرائيل تؤجج الأوضاع وتضرب السلم الأهلي  الرئيس الشرع يضع تحديات القطاع المصرفي على الطاولة نوح يلماز يتولى منصب سفير تركيا في دمشق لأول مرة منذ 13 عاماً  الجيش السوري.. تحديات التأسيس ومآلات الاندماج في المشهد العسكري بين الاستثمار والجيوبوليتيك: مستقبل سوريا بعد رفع العقوبات الأميركية الأولمبي بعد معسكر الأردن يتطلع لآسيا بثقة جنوب سوريا.. هل تتحول الدوريات الروسية إلى ضمانة أمنية؟ "ميتا" ساحة معركة رقمية استغلها "داعش" في حملة ممنهجة ضد سوريا