كان يتنقل من ركن إلى آخر بجسد طفل و همة كهل أثقلت ظهره هموم الحياة ، فأحنت قامته و أوهنت حركته و حارت بنظراته نحو شرود يلتهم ساحة أفكاره المتخمة بالهموم ، في حين كانت الالفاظ البذيئة تنهمر من لسانه بكل سلاطة و فظاظة ، و يداه تمارسان عراكا و تدافعاً مع أقرانه ، اقترب مني و كانت سيدة تشاركني استراحتي بجانب الجامع الأموي ، و قد خلته متسولا يستجدي مالا أو سارقا صغيرا ، فقبضت على حقيبتي حرصا من خفة يد محتملة .
و لكن طلبه كان صادما لجدار طفولة ، ربما خرج من خلف أسواره باكرا فهجر مقاعد مدرسة ، و انطلق ليمارس فنون أولاد شوارع ، بعيدا عن عين رقيب و رعاية والدية أفقدها الفقر همة حرص و مسؤولية أبوية ، و سلب منها الجهل أساليب تربية و تنشئة و تقويم و توجيه و إصلاح. « اعطيني سيجارة « قالها متوجها بالحديث للسيدة التي كانت بقربي و هي تنفث دخان سيجارتها في الهواء ، ربما فتحت شهيته الصغيرة باكرا على التدخين كانحراف و خطوة أولى نحو التحرر من ضوابط و خطوط حمراء ، و حرضت أفكاره الضائعة في عالم الكبار فشغلته عن اللعب و اللهو كطفل ، و الانصراف عن تعلم و دراسة كتلميذ متسرب من عملية تربوية ، لتسول و عمالة مبكرة تسلبه أعظم حقوقه كطفل في طور نمو جسدي و تطور عقلي و نفسي .
استغربت طلبه و أنا أطالع قامته الصغيرة بينما تصدمني نظراته الجريئة التي تكاد تجلدنا ، و كأنه لم يقارب البراءة و لا يخبر عفوية الأطفال فسألته كم يبلغ من العمر فأجاب « ستة عشر عاما «، بينما هو في حقيقة أمره لا يتجاوز العاشرة ، ما حرضني لدخول عالمه و استيضاح وضعه و منشئه ، و لكنه كان مصرا أنه قد تجاوز العاشرة ، و قال أنه يدخن منذ سنتين و بعلم والده الذي أقعده المرض في البيت فيقول له « دخن و لا يهمك « .
محمد يعمل مساء في تجهيز الأراكيل للزبائن على مسطح أخضر في منطقة الزاهرة الجديدة ، و قد أخرجه الفقر و الجهل و تبعات حرب قسرا إلى الشارع ، ليكون مشروع قنبلة خطيرة ربما تنفجر في أي لحظة ، ففي عالم الكبار يتم تلقينه فنون النصب و الاحتيال و أساليب التسول و ربما السرقة ، في استغلال لبراءته و سذاجته كطفل لم يخبر بعد خباثة و مكر بعضهم و قد يستغل ليكون فيما بعد أداة من أدوات الجريمة و إلحاق الأذى بالمجتمع الذي يعيش فيه .
تقول السيدة مادلين التي كانت جالسة بقربي: أين أهله؟ غريب أمر هكذا أهل ينجبون و يلقون بالشارع !! إن كانوا غير قادرين على تربية أطفال و إعدادهم ليكونوا صالحين مفيدين للمجتمع لماذا ينجبون ، الفقر ليس مبررا لعدم رعاية الأبناء فهناك الكثير من الفقراء يربون أطفالهم تربية صالحة و يكونوا طلابا ناجحين بل و متفوقين ، السبب هو عدم الوعي و فقدان الاحساس بالمسؤولية الأسرية ، و الجهل بخطورة تواجد أبنائهم بعيدا عن رقابتهم لمجرد أن يعمل أطفالهم ليجلبوا المال ، بينما يغرق الآباء في عالم التراخي و البطالة ، و الاعتماد على أطفالهم بعد إطلاقهم إلى الشارع كمتسولين يستجدون المارة ، أو ينخرطون في عمالة مبكرة تجعلهم في عالم الكبار عرضة لتشويه أخلاقي أو اكتساب عادات سيئة.
تدخل رجل كبير السن في الحديث ، بينما ما زال محمد واقفا على أمل أن يحظى بسيجارة محاولا إقناع السيدة بأن تعطيه واحدة فقط ، يقول أبو خالد: « طفل مثل الفل لو كان له أهل واعون و تهيأت له ظروف مناسبة و بيئة حاضنة تكون صالحة ، ربما سيكون مستقبلا شابا ناجحا ، قد يصبح طبيبا أو مهندسا أو محاميا و ربما مخترعا ، حرام يضيع هكذا طفل ذو بنية جسدية جيدة و قدرات عقلية ذكية تهدر في أساليب ملتوية .
نحن الذين نعد أطفالنا لما سيكونون عليه مستقبلا ، و بين النجاح الذي تؤسس له التربية الصالحة و الإعداد الجيد و التوجيه الصحيح ، و بين فشل و ضياع و انهدام نفسي و تشوه أخلاقي ، يوهب له تملص من المسؤولية و التهرب من الرعاية الأسرية بحجة فقر و ظروف قاهرة ، يتم رسم ملامح مستقبل أطفال بين أبيض و أسود ، هم عناصر في لوحة مجتمع وعدة لمستقبله و ازدهاره .
منال السماك
التاريخ: الأربعاء 22-5-2019
الرقم: 16983