الجوائز الأدبية من محفوظ إلى الحارثي

ملحق ثقافي..إعداد: رشا سلوم:

ربما يمكن القول بكل بساطة إن الجوائز الأدبية صارت المظهر الأكثر انتشاراً في المشهد الثقافي والإبداعي العربي، وحتى العالمي، لكن العربي هو الأكثر احتفاء بها لقيمتها المادية، ولأن المبدع العربي بحاجة إلى الدعم المادي. يعود النقاش من جديد حول نوعية الأعمال التي تفوز بهذه الجوائز، لاسيما بعد جائزة المان بوكر التي ذهبت إلى روائية عمانية. أخبار الأدب المصرية قدمت قراءة مهمة جداً حول ذلك بتحليل موضوعي ونقدي كتبه ياسر الحافظ، ومما جاء فيه:
منذ فوز نجيب محفوظ بنوبل، ظل العرب ينتظرون لحظات أخري تشابه تلك، تؤكد على أن الأدب العربي يستحق أن يُقرأ على نطاق عالمي، وأنه يمثل إضافة إلى سياق الرواية بتاريخها الغربي الطويل، إلا أن ذلك لم يحدث كما كان متوقعاً، والأعمال التي نجحت وحققت انتصاراً أو حازت جوائز، فعلت هذا لنفسها ولصاحبها وعلى الأكثر للبلد الذي تنتمي إليه وليس لمجمل الأدب العربي. وكان علينا الانتظار لـ31 عاماً كاملة قبل أن تأتي جوخة الحارثي بإنجاز محفوظي، حفيدته التي سارت على خطاه. وإذا كان محفوظ قد حصل على نوبل للآداب لقدرته الفائقة على رصد أدق همسات مجتمعه في الحارة والزقاق وصخب المدينة، فإن جوخة كذلك وعملها تميز بـ «نظرة ثاقبة خيالية وغنية وشاعرية عن مجتمع يمر بمرحلة انتقالية، وبحياة كانت مخفية في السابق»‬، بحسب بيان لجنة التحكيم في حيثيات الفوز.
هناك اختلافات بالطبع، لكنها ليست مهمة إلى تلك الدرجة، صحيح أنه لا يمكن مقارنة جائزة نوبل بالـ «مان بوكر»، كما أن محفوظ استحق الجائزة الرفيعة عن مجمل عمله، عن مسيرة طويلة، وجوخة فازت بجائزتها عن رواية واحدة، حتى المبلغ المالي لا يمكن مقارنته في الحالتين، لكن مؤكد أن الأمر في الحالتين يتعدى نطاق الأدب والرواية ليخرج إلى الجمهور العام، لتثار حول الفوز أسئلة تنتمي إلى الشارع وقضاياه. حدث هذا مع محفوظ ويحدث مع جوخة، غير أنه يمكن الادعاء أنه هنا أعمق وأكثر شمولاً وحساسية، مثلاً: هل نحن صادقون في المطالبة بمنح الحرية للنساء؟ هل لدينا القدرة على تحمل حكي المرأة لو كان مختلفاً عن القوالب الموضوعة؟ هل تثور الهوامش لتحتل مركز الصدارة في الأدب العربي باعتبار ما لديها من فرادة ومجتمعات لم يكشف عنها الستر بالكامل؟ والسؤال الأكثر ضرورة: هل فقدنا الثقة في أنفسنا وثقافتنا بتاريخها وتراثها للدرجة التي نخجل بها من مفردات مثل العادات والتقاليد المجتمعية؟
فازت جوخة الحارثي وروايتها بجائزة المان بوكر الدولية تحديداً للأسباب التي أبدى البعض دهشتهم منها، لأنها لم تتنكر لأي من المفردات التي أثير الجدل حولها مع إعلان خبر الفوز: امرأة، من الخليج، سلطنة عمان التي يجهل الكثيرون الحركة الأدبية فيها، مثلما يتعامون عن إنتاج الخليج بشكل عام. «سيدات القمر» الرواية الفائزة نفسها رغم أنها، وكما ذهبت آراء عدة، قدمت عالماً مختلفاً عن الصور النمطية السائدة عن عمان والخليج ونساء العرب، لكنها مع هذا لم تغادر أرضها وثقافتها ولم ترفضهما على امتداد أجيال الرواية الثلاثة، وإن كانت لم تدخر وسعاً في تعرية أسرار هذا العالم. وهو ما يمكن تبينه من خلال أصوات رافضة على مواقع التواصل الاجتماعي ترى بأن الرواية أساءت إلى بلدها، أو على الأقل أن سبب فوزها مرجعه أن الغرب يحب ويسعى إلى هذه النوعية من الأعمال التي تفضح المجتمعات. رؤية تؤكد أن النظرة إلى الفن في عالمنا العربي مازالت قاصرة ومحاطة بالكثير من الجهل، وأن المشكلة ليست فقط في السلطات التي تصادر وتمنع، بل أيضاً فيمن يدفعها إلى هذا.
غير أن السؤال الذي لا يمكن تجاهله والمرتبط بالنقطة السابقة، هو أن معظم، إن لم يكن كل، ما ينتقيه الغرب من أعمال خارج مركزه لتحتل الصدارة ويتم الاحتفاء بها، تقع في تلك المنطقة الغامضة ما بين الأدب والواقع. وقراءة سريعة في العناوين منذ نوبل محفوظ إلى الآن تؤكد هذا، مع تجاهل شبه تام للأعمال التي تتواصل مع مدارس فنية تنأى بنفسها عن الواقعي واليومي والاجتماعي. هذا سؤال لا يمكن المرور عليه عابراً ولا الادعاء بعدم وجوده خوفاً من شبهة العداوة مع الأعمال الفائزة والشهيرة، وهو في الوقت نفسه لا يقلل من قيمة تلك الأعمال وأحقيتها بالفوز، خاصة إن كان الجمهور الغربي جزءاً من معادلة أوسع من مسألة الفن تتعلق بالنشر والتوزيع، بل وإلى حد كبير ذائقة الجوائز نفسها.
في كل الأحوال فإن فوز جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر الدولية، ليس مجرد حدث عادي، الخليج عالم محاط بالأسرار، والمرأة في القلب من تلك الأسرار، وكما أن للخليج ثقافته الخاصة، فإن وضع المرأة فيه أيضاً لا يماثل وضعها في أي دولة عربية أخرى، ولا بد من كثير من الحذر عند التعميم بكلمات مثل القمع والسلطوية والذكورية. على الأغلب هذه نظرة لم تقرأ الخليج على أي مستوى، ثقافي كان أو اجتماعي، المرأة الخليجية على العكس مما يبدو عليه الأمر لها وضع شديد التركيب عن أي دولة عربية أخرى، وضع لا يمكن الوصول إلى جوهره إلا من خلال رواية مثل «سيدات القمر».
ينتبه الغرب إذاً هذه المرة إلى حكي نساء العرب وبالتحديد الخليجيات، يحتفي بسرد واحدة منهن، تأخذه من يده إلى باب الخيمة المليئة بالسحر والدسائس وبعض الحب، سيظل لهذه الخلطة بريق لن يخبو، تؤكد عليه جوخة الحارثي بحجابها الأنيق، والأنيق هنا لا يصف شكلاً بقدر ما يعني القدرة على التعامل مع ثقافتين على طرفي نقيض، أن تكون همزة الوصل بينهما، الجسر اللطيف الذي يتم عبره تبادل الآراء والخبرات والابتسامات، الدور نفسه الذي قام به محفوظ من قبل عندما كشف للغرب برهافة عن الحياة الإنسانية الكامنة في الزقاق والحارة بعد أن كانت قبلاً صورة للجهل والتخلف.
من المفترض أن فوز «سيدات القمر» بالـ «مان بوكر» عمل من أعمال الثقافة، وهو بالتأكيد يمثل انتصاراً للرواية العربية، لكن مع هذا، على الأغلب لن يحدث بسببه رواج لها، والتوقعات المتفائلة المصاحبة الآن للحدث والتي ساد مثلها أيضاً مع فوز محفوظ، ستتلاشى للأسف سريعاً لصالح أعمال تسعى لتقليد منهج العمل الفائز لأغراض تجارية.
لن يكون فوز جوخة انتصاراً للأدب، لأن الساحة العربية ستنشغل، وقد بدأت بهذا بالفعل، في الصراع. نحن في العادة نفضل الصراع مع أنفسنا على استثمار النجاح، أضعنا فرصة محفوظ ولن نتوانى عن إضاعة فرصة جوخة. ربما لو لم تكن جوخة ممن يعتبرونه «الهامش»، أو لو كانت رجلاً، لاكتمل فوز جوخة في تصور المهووسين بالتصنيف، لكن حتى لو تحقق كل هذا، لن نعدم أسباباً ووسائل كي لا ننتقل من خانة الاحتفاء أو سؤال التشكيك إلى خانة الدرس والنقاش لبحث جاد عما هو أكثر حيوية وأهمية، عن سرد لا نعرفه، عن مركزية الترجمة التي أصبحت تتولى اختيار الصورة التي تقدمها عنا لأننا لا نريد أن نقدم أنفسنا، ننتظر أن يرانا الآخر ويقول لنا هذا أنتم.
فوز «سيدات القمر» عمل سياسي واجتماعي بقدر ما هو ثقافي، مثلما كان فوز نجيب محفوظ قبل 31 عاماً، انتصار مدو يفجر عشرات الأسئلة حول الثقافة العربية الغنية التي نخجل منها لأنها تأتي من الهامش وتحكيها النساء.

التاريخ :18-6-2019
رقم العدد:17003

 

 

آخر الأخبار
فتح المعابر.. تنشيط للاقتصاد وجذب الاستثمارات خبيران لـ"الثورة": فرصة للترانزيت الدولي وفتح مناطق ح... مطار دمشق الدولي يستقبل 331 حاجاً بين سوء الخدمات وإهمال المواطن تظهر القمامة في الأحياء الفقيرة أكواماً! الإتجار بالأعضاء.. تديره شبكات منظمة عابرة للحدود المحامي يوسفان: مجرمون استغلوا علاقات القربى مع ا... تسويق  14 ألف طن قمح في حمص تحضيرات امتحانات المحاسبين على طاولة "المالية" " صناعة حسياء " تصدر 46 قراراً صناعياً منذ بداية العام  الدفاع المدني يزرع قيم التطوع في نفوس الأطفال من بوابة الفن   الهيئة العامة للطيران المدني تنفي إغلاق مطار دمشق وتؤكد استمرار العمل دون عوائق  استرداد أكثر من 16 طن كابلات مسروقة بدير الزور القنيطرة.. تدريب النساء على تربية النحل والنباتات الطبية والعطرية  بعد المنحة التشجيعية زاد استلام القمح..  3400 طن قمح في مراكز دير الزور    علي خامنئي… مرشد الثورة وباني إمبراطورية الظل الإيرانية انطلاق امتحانات الفصل الأول في معاهد جامعة الفرات  هجمات جديدة.. ترامب يهدد وخامنئي يرفض الاستسلام ويتوعد إنتاج وفير لمشمش غوطة دمشق الشرقية  بين ضعف التسويق وانعدام التصدير   من الحرب الى التحدي الرقمي .. لماذا لاتصل التكنولوجيا الى السوريين؟  سوريا في قلب التأثيرات الاقتصادية. تضخم وازمة توريدات مخاوف من استمرار الحرب الإيرانية- الإسرائيلية... الأوقاف الإسلامية.. آلة مالية ذكية لإعمار المستقبل  ما تحتاجه سوريا اليوم خريطة وقفية اقتصادية   جديد الاقتصاد.. مديرية التقانة والتحول الرقمي