ملحق ثقافي.. د. محمود شاهين :
إن نظرة متأنيّة على النتاج الفني التشكيلي السوري الشاب المتنوع الصيغ والتقانات، نجد أنه لا يختلف كثيراً عما هو سائد في الحركات التشكيليّة العالميّة كافة، ما يؤكد انفتاح المؤسسات التعليميّة الأكاديميّة السوريّة على عصرها، وانفتاح الفنان التشكيلي السوري الشاب نفسه، على ما يحدث حوله، خارج الأكاديميات، وهذا أمر مُتاح له، بوجود وسائل الاتصال البصري الحديثة من تلفاز وإنترنــت وصحـافة مقروءة وكتب ومعارض… وغيرها.
وحتى الأكاديميات تترك لطالبها حرية التعبير، بعد أن تقوم بتزويده بالمعارف العمليّة والنظريّة الأساسيّة لبناء العمل الفن الصحيح والسليم، ليختار بعدها، الصيغة والتقنية التي يجد نفسه فيها أكثر من غيرها، ولعل هذا التنوع الغني واللافت في نتاجات الفنانين التشكيلين السوريين الشباب، خير دليل على ذلك. فقد تبنى الفنانون السوريون الشباب الاتجاهات والأساليب الفنيّة السائدة في الفن العالمي، بدءاً من الواقعيّة وانتهاءً بالتجريديّة، واشتغلوا على تقاناتها كافةً، كما مارسوا جميع أنواع الفن التشكيلي. رغم سيطرة التيارات الحديثة القائمة على إعادة صياغة الشكل المشخص واختزاله وتلخيصه، إلا أن الشكل الواقعي المفهوم، والموضوع الواضح والمقروء، ظلا حاضرين في كافة نتاجات الفنانين التشكيليين السوريين الشباب. وظلت نزعة البحث والتجريب والرغبة بالتمايز أو الاستقلالية الأسلوبيّة، هي الغالبة على هذه النتاجات.
من جانب آخر، ورغم اعتماد غالبية الفنانين، المفردات التشكيليّة العالميّة، والموضوع الإنساني الشامل، إلا أن ملامح البيئة السوريّة ظلت موجودة وحاضرة فيه، سواء بشكلها المباشر الصريح، أو من خلال الرموز والإشارات المستعارة من التاريخ السوري أو عبر الألوان المعجونة بضوء الأرض السوريّة وتدرجاتها.
والحقيقة شَكّل الإنسان بحالاته الوجدانية المختلفة المحور الأساس في أعمال التشكيليين السوريين الشباب، ما يدل على تحسس هذا الفنان لمشاكل مجتمعه، وجديته في تناول الهم الوطني والقومي والإنساني.
بالمقابل، غابت عن غالبية هذه النتاجات، الاتجاهات العابثة والممعنة في الذاتية أو تلك الاتجاهات التي يُطلق عليها (الدادائيّة) أو (التركيبية) أو (الطليعيّة وما بعدها) التي برزت في الفنون الغربيّة أواسط القرن العشرين ثم انحسرت لتظهر هذه الأيام، في مصر ودول الخليج العربي، إلا أنه، رغم محافظة الفنان التشكيلي السوري الشاب على وسائل التعبير التقليديّة، حاول التحديث فيها، لتتماشى مع عصره، وتلبي طموحاته، وهو كما تدل نتاجاته، يمتلك القابلية الأكيدة، والشهية المفتوحة، على تقبل كل جديد يحدث على هذا الصعيد، لكنه لا يأخذ من هذا الجديد، إلا ما يتوافق مع ذاته أولاً، ومع خصوصية مجتمعه ثانياً، ومع عصره ثالثاً، يُضاف إلى ذلك حرص هذا الفنان على الاحتفاظ بإمكانية التواصل مع القطاع العريض من الناس، رغم وجود صعوبات كثيرة تحد من نجاح عملية التواصل هذه، أولها وأهمها، جِدة الفنون التشكيليّة في مجتمعاتنا العربيّة المعاصرة، وسطوة الأدب (وخاصة الشعر) على الذائقة العربيّة، فالعرب أمة الشعر كما يقال، والعين العربيّة في الأساس، مأخوذة بسحر الألوان الصريحة والكثيرة، ومع ذلك، بدأت هذه العين، تأنس وتطرب وتتعود على اللغة التشكيليّة الحديثة، بما في ذلك اللغة التشكيليّة الشابة الممعنة بالحداثة والصعبة حتى على المتلقي في الدول الغربيّة التي صدرتها لنا بشكلها الحالي، وصيغتها الواقفة في برزخ التشخيص والتجريد، والوضوح والغموض، والجديّة والعبث، والموهبة واللاموهبة، والأصيل والمزيف، والبحث الجاد والاستعراض المبني على مركبات النقص وإثبات الذات، بأي شكل من الأشكال، والفن بأشكاله كافة، صار أبرز هذه الوسائل والأشكال، وأكثرها إغراءً وجذباً، للباحثين عن ترميم ذواتهم، وتعويض مركبات النقص لديهم، خصوصاً وأن ميادين الفن، جميلة، ناعمة، نظيفة، مُبهرة، وواسعة بحيث يضيع فيها المبدعون الأصلاء والدخلاء… لكن إلى حين!!
حالة التحصين الذاتي، التي يمارسها الفنان التشكيلي السوري الشاب، على نفسه وعلى نتاجه الفني، تتعرض هذه الأيام، وبقوة، إلى جملة من التحديات والضغوطات التي تُمارس عليه وعلى فنه، بأكثر من شكل وصيغة، وعبر العديد من القنوات الداخليّة والخارجيّة، تهدف جميعها، إلى الزج به، في الحِراك الثقافي العولمي، ومن ثم تدجينه ليصبح نسخة طبق الأصل، عما هو سائد، في الحيوات التشكيليّة العالميّة، أو ما يعمل العولميون على أن يسود ويتعمم فيها، بأشكال مختلفة، من بينها وسائل الاتصالات البصريّة القوية في سلطتها وفاعليتها وتأثيرها في الإنسان المعاصر، لاسيّما بعد تطور تقاناتها المذهل. يُضاف إليها المراكز الثقافيّة ومعاهد وكليات الفنون الأجنبيّة المتنامية الحضور والانتشار، في بلدان العالم الثالث، والتظاهرات الفنيّة، وورش العمل الغربيّة الحاملة لأكثر من مسمى، التي تشهدها حياتنا الثقافيّة العربيّة المعاصرة، إضافة إلى التأثيرات التي يحملها الفنانون من زياراتهم المتكررة للدول الغربيّة، بهدف الدراسة، أو إقامة المعارض، أو المشاركة في فعاليّة ما، أو الاطلاع، على تيارات واتجاهات الفن (الطازجة) التي لا تزال تفرزها وبنشاط لافت، ماكينات العولمة الثقافيّة.
هذه العوامل مجتمعة، جعلت لكل فنان شاب في حيواتنا التشكيليّة العربيّة قريناً في الغرب، يقلده وينسج على منواله، لاسيّما منهم الذين يشتغلون على الفنون المتطرفة في تجريديتها وغموضها وذاتيتها وفوضاها، بدءاً من فنون الطليعة وما بعدها، وانتهاءً بالفنون المركبة، و(الفيديو آرت)…إلخ.
هذه الاتجاهات المفصولة عن المفاهيم التقليديّة والأصيلة التي راكمها تاريخ الفن العالمي عبر مراحله المختلفة، هي ما تحاول تمريره وتسويقه وتعميمه، الإرساليات والمراكز والمعاهد والتظاهرات والورش الفنيّة الغربيّة، في حياتنا الثقافية المعاصرة، لذلك تفتح صالات عرضها لها، وتصفق بحماس شديد للمشتغلين عليها، وتقوم بتسويقها وتشجيعها بأشكال مختلفة، وبالتالي، توجيه التجارب الشابة لولوجها بهدف إلغاء أي ملمح يشير إلى المكان الذي جاءت منه.
لا تزال عملية عولمة الفن التشكيلي السوري الشاب، تلاقي مقاومة وصدوداً وعزوفاً، من قبل غالبية الفنانين المشتغلين فيه، وهو ما يعكسه بجلاء، واقع هذا الفن الذي لا زال مُحصناً ضد التيارات العابثة الضائعة والمضيعة، إذ لا تزال هذه الاتجاهات تعيش على الهامش، وتشكو من نفور غالبية التشكيليين الشباب والمتلقين منها. مع ذلك، فإن همة المعولمين عالية ومستمرة في المحاولة. بل وتزداد شراسة وقوةً، يوماً بعد يوم، وبالمقابل، يزداد الطرف الآخر ممانعة وصموداً، رغم الاختراقات العديدة التي تحدث هنا أو هناك، وهي ممانعة وصمود ذاتي وغير منظم. أي لا تساهم فيه المؤسسات والمنظمات المعنية بالثقافة، وإنما هي ردود فعل تلقائيّة، تصدر عن الفنان وعن المتلقي في آنٍ معاً، بعيداً عن أي نوع من التوجيه أو الإرشاد أو حتى الإيحاء.
التاريخ: 18-6 -2019
رقم العدد : 17003