تستعيد الفنانة التشكيلية ليلى رزوق في لوحاتها ومنحوتاتها، ايقاعات من جماليات التراث الحضاري، المكتنز بصوره ورموزه وأشكاله، وخاصة في منطقة «السقيلبية»، التي شهدت ولادتها وطفولتها، وتجسدها بنمنمة تفصيلية شديدة الوضوح والبروز، ترتكز على طريقة تركيب طبقات اللون في اللوحة، وعلى خامات متنوعة في منحوتات تتميز بقياساتها الكبيرة، وتجعل المشهدية الحكائية، التي تروي فصولا من تاريخ بلدتها، حاضرة في أعمالها القديمة والجديدة, ما يعني حضور التفاصيل التاريخية والمتحفية، من منطلق متابعتها الدائمة ودراستها المتواصلة لتاريخ بلدتها، رغم أنها مقيمة في دمشق، حيث نلاحظ في أكثرية لوحاتها ومنحوتاتها، بروز المرأة الريفية بزيها الذي يمتد بجذوره – على حد قولها- إلى الحضارة التدمرية.
بين التشكيل والأزياء
هكذا تفتح مساحاتها التشكيلية على صياغات كلاسيكية وواقعية، وتمد عناصرها, بإضافات فنية خاصة بها، وقادمة من ثمرة وخلاصة بحثها على مدى عقود. وأهم ما في بعض أعمالها أنها تؤرشف أوتؤرخ لتراث في طريقة للإنقراض والزوال، وتجعل الشواهد والعناصر التراثية قابلة لطواعية التغيير, من خلال خطوات الحذف والإضافة, وهذا يضفي الناحية الأسلوبية، ويظهر قدرتها على التلاعب بالسطح التصويري، من خلال استخدام اللمسة والأجواء اللونية وخطية التعبير الذي تريد إيصاله إلى المشاهد عبر استعادتها المتواصلة لثنائية الماضي والحاضر.
وهي تظهر قبل أي شيء آخر معرفة تاريخية بكل ما شاع من تشكيلات وفنون وأزياء قديمة (هي المهتمة الآن بتصميم الأزياء، حيث أنجزت رسومات مرهفة لعارضات وأزياء من تخيلاتها) وتأخذنا في بعض الأعمال، إلى مشاهدات شكلية, تتماهى أكثر فأكثر مع ضرورات التأليف الفني.
ولقد أظهرت ليلى قدرة لافتة في صياغة التفاصيل الصغيرة والدقيقة، التي أحبتها, وجسدت من خلالها موضوعات غنية ومختلفة (لوحات أيقونية وكنسية فيها ملائكة وأحصنة تجر عربة محمولة على الغيوم وسابحة في الفضاء).. كل ذلك بصياغة تشكيلات رصينة وعقلانية، نراها أيضاً ضمن تمثيلات فيها عناصر إنسانية في فضاء الطبيعة وبورتريهات وغيرها، بكل التحديدات والتفاصيل الصغيرة والدقيقة، أي بصورة بعيدة كل البعد عن منهج الاختزال والتبسيط.
منظورية مثالية
وإلى جانب إنتاجها للوحة الفنية الحاملة مظاهر الرؤى الكلاسيكية والواقعية، فهي تمارس النحت، وتقدم منحوتات واقعية، هي عبارة عن نماذج يمكن تنفيذها كأنصاب نحتية واقعية، تحاور عيون الناس في الساحات والحدائق والأماكن العامة، وحين تعالج الوجوه تقنعنا أن الدقة في معاينة المظهر الخارجي، هي من ضمن السبل الهادفة إلى كشف التعابير الإنسانية في قسمات الوجه.
تتمسك ليلى ومنذ بداياتها، بأجواء ومشاهد الطبيعة المحيطة ببلدتها السقيلبية، حيث تظهر هذه المشاهد في لوحاته بدقة تقترب في أحيان كثيرة من الواقعية الفوتوغرافية, وهذا يتطلب منها أياماً وشهوراً في إنجاز العمل.
وفي لوحاتها ومنحوتاتها تستعيد المشاهد القديمة، بكل ما فيها من تفاصيل وعناصر تجسد الإنسان ومشاهد الحقول والأشجار والأعشاب والأزهار والصخور, وحركة الغيوم والمشاهد المستمدة من تأملاتها وتجوالها في الأمكنة الحميمية أو المستعادة من مخزون ذاكرتها البصرية، التي عمقت من هواجس نزعتها المثالية الأقرب إلى الواقعية الفوتوغرافية.
ومن الناحية الفنية تحب ليلى رزوق مواجهة الموضوع الواقعي، وهي تختار وترسم بمنظورية البعد والعمق. ولقد أنجزت مجموعة واسعة من الأعمال الفنية, التي تبرز جمالية الانتقال من إطار الصياغة الواقعية إلى أجواء روحانية وخيالية أحياناً, وكثيراً ما تركز لإظهار عدة عناصر انسانية في اللوحة الواحدة، مغيرة في وضعياتها وحركاتها. وتتقارب الأجواء الفنية بين اللوحة والمنحوتة، وهذا يدخلنا في إيقاعية تحتفظ بحركتها التعبيرية والرمزية، وتسير إلى المشهد المنسجم مع الأجواء التاريخية.
و ليلى رزوق تحب العمل بصمت, إذ المهم بالنسبة إليها الوصول إلى منحوتات (قياسات كبيرة) ولوحات تحقق سعادتها وتنقل احساسها بمزيد من الدقة والنعومة, في معالجة السطوح والعناصر والرموز. كما اتجهت في العديد من لوحاتها لإظهار الإشراق اللوني، المتملص من أفقية امتداد الايقاعات اللونية الرمادية والباهتة.
تأثيرات الحرب
وتبدو أعمالها الأحدث بعناصرها الإنسانية وحركاتها وتعابيرها مفتوحة على تعابير العذاب الإنساني في الأزمنة الراهنة، وهذا يمنح أعمالها المزيد من التوافق بين التعبير عن دلالات التاريخ الحضاري، وبين الانفتاح على موضوع « الشهداء « وما أصاب بلدتها من مآس وجراح وويلات.
هكذا تختبر من خلال هذه التشكيلات التصويرية والفراغية قدراتها التأليفية والتكوينية، في إبراز الأجواء الواقعية والرمزية، وتغيب هذه الأجواء أحياناً لإظهار التشكيل النحتي الأكثر اقتراباً من الواقع والذي يبقى في حدود الأبعاد الثلاثة، في المنحوتة الجدارية والفراغية معاً.
ولوحاتها التي قدمتها منذ مطلع حياتها، وأخذت من سنوات عمرها، المدى الطويل، تشكل مدخلاً لاستشفاف جوهر الرسم الكلاسيكي الدقيق، الأكثر ارتباطاً بالوعي والنمنمة التفصيلية، وحين نتحدث عن المثالية الكلاسيكية، يكون في حسابنا أنها سبقت الواقعية بخمسة قرون على الأقل، وهذه اشارة تتجاور الالتباس الحاصل عن عدم تفريق البعض بين الكلاسيكية والواقعية.
وتتشكل في وجوه لوحاتها هموم لا تحصى وأوجاع لا تنتهي, وهي تقع بين الوجوه الطفولية (لوحتها أطفال في الطبيعة) والوجوه (الحاملة ملامح عمرية) والمستمدة من بيئتها وواقعها وذاكرتها الطفولية, ومن ثنايا الأزمنة والحزن المزمن. كما تتنقل موضوعاتها بين اللقطات البائسة للأشخاص, ومشاهد جمالية متنوعة لمواضيع أخرى, ولأنها ترسم المرأة الريفية, فهي تنقل لنا في أحيان كثيرة معاناتها، وكأنها عنصر مكمل للبؤس والعذاب الإنساني.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الأربعاء 26-6-2019
رقم العدد : 17009