بعد أن وصل بنا التطور إلى وقت يتفجر بالمنجزات، والاختراعات، والأدوات الحديثة المبتكرة وقد باتت من نسيج حياتنا، لتسلمنا بدورها إلى عصر الاستهلاك، فقد أصبح اللهاث وراء المادة من أبرز ملامح السلوك المعاصر لدرجة أننا غرقنا فيها ـ أي المادة ـ وابتعدنا كثيراً عما سواها.
فالمادة والتلهف إليها أصبح يحكم علاقاتنا، وسلوكنا.. وقانون النفعية، أو الانتفاع من الآخر هو الذي يقنن سلوكنا.. ولا وقت للبحث عن أي مسار آخر لا يحقق لنا ما نسعى إليه، أو أنه يحرفنا عن هدف الحصول على المال، والمزيد من المال.. ونحن نتطلع إلى الرفاهية، ومزيد المزيد منها.
أما الحياة العملية، والحصيلة التي تأتي من ورائها فهي تقاس عموماً في نجاحها، أو فشلها بمقدار ما يدخل إلى جيوبنا، ويسعفنا في اقتناء كل ما نرغب به، أو في تحقيق ما كان يقع في حيز الأحلام البعيدة التي تعززها أحلام اليقظة.. وقليلاً ما يؤخذ بالاعتبار عند تقييم النجاح ما يتحقق على الجانب المعنوي بعيداً عن المحسوس، والملموس هذا الذي غدا الجميع مشغولا، ومشغوفا بالحصول عليه، وعلى الاستزادة منه، وبما يضمن اندماجاً استهلاكياً تاماً.. وإغراء العرض أكبر من أن يقاومه الطلب، وخاصة فيما تنتجه التكنولوجيا الحديثة كل يوم من جديد فائق الأداء بما لا يدع فرصة لتجاهله، أو اعتباره ليس موجوداً، أو أنه لم يظهر على الساحة بعد، أو أننا نستطيع العودة إلى الوراء في الاستغناء عن هذا الجديد الذي يلتمع إغراؤه من بعيد إذا ما لاح لنا، ونحن ندّعي أن حالنا كان أفضل قبل ظهور هذا الجديد أياً كان في مجاله.
لكن للأبحاث الحديثة رأي آخر في هذا المضمار تعززه التجربة، ويؤكده التطبيق، والممارسة.. فها هي واحدة من أهم جامعات العالم، والتي تأتي في رأس قائمة التصنيف ألا وهي (جامعة هارفارد) تطرح نظرية بحثية، وتخضعها للتجربة العملية.. فبعد أن كان المال العنصر الأوحد في تحفيز العاملين في شتى حقول العمل، وهو الدافع لمزيد من حسن الأداء، تبين أن في الأفق حوافز أخرى هي أكثر جدوى في سوق العمل، وأكثر تأثيراً في الاقتصاد، كما في سلوك المجتمع، وبما يساعد على تخفيض معدلات البطالة.. ألا وهي استقطاب المواهب، وتوظيفها، والاحتفاظ بها لوقت طويل، وإعطاؤها فرصاً مجانية للدرس، والتدريب، اعتماداً على نظرية مفادها أن المال ليس هو دائماً الحافز الأفضل للعاملين إذا ما وضع مقابل مزيد من فرص اكتساب المعرفة، إلى جانب التقدير، والشعور بقيمة الذات، وإلقاء الضوء على المنجز بما يجلب لصاحبه الشعور بالامتنان، والشكر بدءاً من المؤسسة التي يعمل العامل بها، وانسحاباً حتى تصل الأصداء إلى المجتمع الضيق، ومنه إلى الواسع، وربما إلى خارج حدود البلاد.
إن هذا الدفق المعنوي الذي ينطوي على جرعة كبيرة من التشجيع هو كفيل بإقناع العامل، أو الموظف بالتخلي عن حلم الحافز النقدي.. لأن تعزيز الثقة بالنفس، وبإمكانات الفرد هما أكثر جدوى على صعيد الإنجاز العملي، ودافع أكبر لتطوير الذات.. وهذا ما أصبح العالم المتحضر يتطلع له في سباقه المتسارع مع العلم، والتطور الحضاري.
وهنا أيضاً تأتي المرونة في التعامل الوظيفي بحيث يتجاوز المفهوم التقليدي للموظف من ناحية التركيز على الانضباط في ساعات العمل أكثر من التركيز على ما قد ينجز في تلك الساعات.. وأرباب العمل في هذه الحال يجب ألا يكتموا التقدير، والإعجاب بما قام به مرؤوسوهم، بل عليهم الإعلان عنه، ولو وصل الإعلان إلى الإعلام.
أما الموظف السعيد الذي أصبح سعيداً بفضل ما ناله من التقدير فقد أصبح بالتالي أكثر كفاءة من سواه لأن النقد الإيجابي قد جعل الرؤية أكثر وضوحاً، وشفافية.. وهذا هو المهم من هذا البحث العملي الذي طرح أفكاراً جديدة بدأت فعلاً تأخذ طريقها للتطبيق مادام الحافز المادي لم يحقق المردود المرجو منه كما يفعل الحافز المعنوي من ثناء، وتقدير، واعتزاز بالذات، ومن ثم تقدير المجتمع، واعترفه بقدرات الأفراد.. إلا أن هذه العتبة من التقدير باعتقادي هي مكسب إضافي بحد ذاتها، ويمكنها بالتالي أن تأتي بالأموال من مصادر أخرى.
ومادامت السعادة تنبع من الداخل فكذلك هي القدرات التي تتفتح في أجواء مريحة ينتفي معها الإحساس بالخوف من فقدان العمل، أو الدونية، أو النظرة العدائية لكل من هو ناجح، ومتفوق في مجاله.
أساليب تحفيزية حديثة تجذب إليها المواهب، ولا تعدم قدرتها على الاحتفاظ بتلك المواهب لابد أن تصبح سمة من سمات العصر، وهي تقف في مجابهة المادة رغم الاستغراق بها في معادلة لها أن توازن نفسها بنفسها، ولا تقع في دائرة التناقض، أو المفارقة.
لينـا كيــلاني
التاريخ: الجمعة 28-6-2019
رقم العدد : 17011