لم يكن نشاطا اعتباطيا ما قررته جمعية البيئة في استحضار أعضائها ومتطوعيها من القيام بحملة للنظافة لإظهار وجه المدينة بالشكل الذي يليق بحضارتها وعراقة شعبها، وباعتباري واحدة من الأعضاء أوكلت لي مهمة إزالة ما يشوه حارات دمشق القديمة من نفايات ارتأى أصحابها أن تكون جزءا من هذه الشوارع بدل أن توضع في المكان المخصص لها.
والمفارقة العجيبة أننا في الوقت كنا ننفذ فيه المهمة وعلى مرأى المارة والعابرين، نجد ذاك التحدي الجائر الذي يمارسه البعض وفي شعور أقل ما يقال عنه أن غير مسؤول، فنراهم يخلفون وراءهم نفايات ملقاة على الأرصفة أو في زوايا الحارات والبيوت، رغم أن الحاويات كانت على مرمى البصر منهم.
وبالطبع لاأسرد هذه الحكاية لملء السطور فقط، وتقديم مادة صحفية، بل لأقدم أنموذجا عن اللامبالاة والإهمال في استخدام المرافق العامة والحدائق، ويقاس على ذلك الأسواق والمناطق الأثرية والمؤسسات العامة دون مراعاة للشروط الحضارية التي يجب أن تكون مقياسا لإنسانيتنا وعلاقاتنا مع البيئة التي تجمعنا جميعا وتشهد على تفاصيل حياتنا، وتحمل ذكرياتنا وإرث أجدادنا وحكايات أبطال وشهداء مروا على هذه الصروح والمعالم.
ويبدو أن هذه التقاليد تنتقل بالعدوى بين الأفراد، ولا أدري لماذا استذكرت قصة ويلز» في بلاد العميان» التي تحكي كيف تتحول الحقائق والقيم والجمال إلى ضرب من الوهم، ففي الوقت الذي يحاول بطل القصة» نيو نيز» أن يشرح معنى أن يكون الإنسان واعيا لما يدور حوله ومعنى أن يكون بصيرا بالحقيقة، يجد الجميع يتماهون في جهلهم وطغيانهم، بل على العكس يحاولون جره إلى عالم الخطيئة.
وفي التفاتة صغيرة لما يدور حولنا من مفارقات لا يدركها المنطق ولا يمكن للعقل أن يصنفها إلا في ميزان ما يطلق عليه العامة» عالم النفاق تحكمه شريعة الغاب» فالعلاقات الإنسانية باتت تنزلق في عالم المصلحة الشخصية، وبات الإنسان يصارع من أجل البقاء وربما في كثير من الأحيان يبرر لنفسه وسيلة يجدها الأكثر نجاعة في حفظ ماء وجهه، وآخرون يطوون في ملفاتهم عالما من الصور المشوهة غير آبهين بما يجري حولهم، فالحرب كما يقولون أيقظت فيهم بدائيتهم، فالعيش حسب نظرياتهم لمن يمتلك النفوذ والمال، ولكن أين نحن من هذه المقولات العفنة، وأين نحن من قيم لطالما باهينا فيها الأمم، ألا يدرك هؤلاء أن الأوطان لا تباع ولا تشترى، وأننا جميعا على أرضه معنيون بإعادة إعماره وبنائه، وأن الأطفال من حقهم أن يعيشوا في وطن جميل؟!
جميعنا يتحدث عن المثالية والقيم والأخلاق والتفاني في العمل، وأن البعض يسيء للمصلحة العامة ولكن لماذا لا ننتصر للحق والخير والجمال، ونسعى عبر منابرنا الثقافية لنشر مفهوم المواطنة الحقيقية ومعنى أن ننتمي إلى هذا الوطن الذي قدم من أجله آلاف الشهداء لتظل رايته عالية خفاقة، ليس تنظيرا بل عملا وسلوكا، فالكل من موقعه يستطيع أن يوقف زحف منظر الخراب، وينهض بإرادة صلبة لنشر قيم العمل والخير والجمال.
يقول اليابانيون» قم فما ينتظرك أجمل مما يحيط بك، اشتر أحذية لأحلامك وستصبح كل الطرقات إلى الوصول سالكة» نعم إن بذور الخير التي تكمن في داخلنا لابد أن تزهر من جديد في القادم من الأيام، فالوطن يتسع للجميع، وعندما تتعانق الأيدي وتتضافر الجهود نستطيع أن نكون جديرين بأن نكون أبناء بارين للوطن ولإرث أجدادنا العريق، فأكثر ما يميز الإنسان هو تمتعه بنزعة الخير مهما جار الزمن عليه.
وما يثلج الصدور تلك الفعاليات الثقافية والمهرجانات والمعارض التي تزهر في ساحات الوطن كافة، ولابد أن تنبت الجمال بين جنباته وفي نفوس أهله الذين جبلوا على المحبة والعطاء، بعيدا عن كل ما يشوه الذائقة الإنسانية من مفاهيم الجشع والاستغلال.
وبعيدا عن بلد العميان سنبصر جمال القلوب، وصفاء النفوس، لتصبح جميع الطرقات سالكة إلى عالم الحق والخير والجمال، عالم البناء والإعمار حتى تطال عنان السماء.
فاتن أحمد دعبول
التاريخ: الجمعة 12-7-2019
الرقم: 17022