يتابع البعض التغطية الإعلامية للمنافسة القائمة حالياً على تبؤ منصب رئاسة الوزراء في بريطانيا دون تبصّر منهم عن تورّط كل من جيرمي هنت وبوريس جونسون في الحرب على اليمن، وذلك نتيجة إغفال وسائل الإعلام الدور الذي يؤديه كل منهما في تلك الحرب، الأمر الذي أثار فينا الدهشة والاستغراب بذات القدر الذي أثار فينا الأسى والفزع.
عند تسلّم كل منهما لحقيبة الخارجية، لم يتوان البتة عن المشاركة في خلق الكارثة الإنسانية الأسوأ في العالم أجمع، من خلال تمكين التحالف القائم بقيادة المملكة السعودية بارتكاب القتل العشوائي للمدنيين، وفي خضمّ التنافس القائم على قيادة حزب المحافظين آن الأوان لكشف إجرام الوزيرين رفيعي المستوى حيال اليمن والتفكر ملياً بقضية العلاقات البريطانية مع ممالك الخليج العربي بذات المستوى والأهمية التي يجري بها التفكير في اختيار رئيس مجلس الوزراء ومستقبل المملكة البريطانية المشكوك به بعد بريكست.
يتحمل التحالف الذي ينضوي تحت القيادة السعودية المسؤولية عن مقتل عشرات الآلاف من اليمنيين على مدى السنوات الأربع الماضية منذ بدء الحرب.
كما وصفت تقارير أعدّها خبراء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة استهداف المدنيين بـ القتل «الممنهج والواسع» الأمر الذي تزامن أيضاً مع ما يفرضه التحالف من حصار كان السبب الرئيس في الكارثة الإنسانية التي ألحقت الضرر بحياة الملايين من الأشخاص.
وفي هذا السياق، ذكرت منظمة (حماية الطفل) أن 85000 رضيع ماتوا منذ بداية الحرب جراء الجوع والأمراض التي يصعب الوقاية منها.
المؤازرة الرئيسة
يعتبر عدد من الوزراء البريطانيين مشاركين في المسؤولية عما يحدث من موت في اليمن، وتعد بريطانيا مؤازراً رئيساً في الحملة التي تقودها السعودية، ولا سيما أن حوالي نصف القوة الجوية الملكية السعودية تضم طائرات عسكرية بريطانية الصنع وهي لا تعمل دون دعم لوجستي وتقني توفره المملكة المتحدة، من حيث عمليات الإصلاح وتأمين قطع الغيار والعمرة لمخازن الصواريخ والقذائف التي كانت سبباً في تدمير أفقر دولة في الشرق الأوسط على مدى السنوات الأربع المنصرمة.
تتوطد العلاقات بين بريطانيا والمملكة العربية السعودية وممالك الخليج الأخرى دون النظر إلى ما يمكن أن تحققه مبيعات الأسلحة من أرباح، وقد تعهد وزير الخارجية فيليب هاموند عام 2015 بدعم السعودية «بكل الوسائل المتاحة لتحقيق النصر في معركتها القصيرة»، ومنذ ذلك الحين والمملكة المتحدة تقدم الدعم للرياض بلا توقف، إذ استمر في عهد جونسون وهنت اللذين خلفاه في المنصب ولم يكترثا للتكلفة البشرية التي يتكبدها هذا البلد الفقير، ولا شك بأن الاستبداد الذي يمارس في شبه الجزيرة العربية لم ينشأ عن ثقافة المنطقة، بل إنه نتاج مجموعة من العمليات الاجتماعية والاقتصادية التي تدخل البريطاني (وبعده الأميركي) في تحصين ودعم الأنظمة الملكية.
أما في العصر الحديث، فإن ثروة البترودولار الخليجية دعمت العائلات الحاكمة وحفّزت القوى الغربية على إبقاء دعمها ومساندتها لدول البترودولار.
الفائض التجاري المهم
شكّل الفائض بالأموال العائدة لدول الخليج وخاصة المملكة السعودية مصدراً لدعم المصارف البريطانية والاستثمارات القائمة، ومكّن لندن من تدارك النقص الحاصل في التمويل، واستقرار الجنيه الاسترليني المعرّض لخطر التدهور على نحو متزايد.
وقد تطورت رأسمالية «السوق الحرة» البريطانية لدرجة إقامة العلاقات التكافلية مع أنظمة الخليج الاستبدادية، واقترنت شهية لندن لرأس مال الخليج مع رغبة النخبة الخليجية بتعزيز العلاقات مع حلفائهم في الشمال، ولاسيما عقب ثورات «الربيع العربي»، ومن الأمثلة على تعزيز تلك العلاقات، إنقاذ الأموال القطرية والإماراتية عام 2008 لبنك باركلاي، وتقديم عدد كبير من الاستثمارات، منها دعم نادي مانشستر ومشروع ناطحة السحاب شارد وغيرها.. الأمر الذي يجب أن ينظر إليه نظرة شمولية أوسع.
وفي هذه الأثناء، أصبحت ممالك الخليج سوق التصدير العالمي بالنسبة المملكة المتحدة، التي تعاني من عجز تجاري في تعاملها مع الكثير من دول العالم، وقد تطورت رأسمالية «السوق الحرة البريطانية» وبدأت العلاقة التكافلية القائمة على الريعية مع الدول الخليجية الاستبدادية، لذلك فإن تدفق استثمارات دول البترودولار إلى المملكة المتحدة لا يقتصر على كونها دولة رائدة عالمية في مجال الصناعة المالية، بل أيضاً لأن النخب الخليجية على علم أن بريطانيا تعدّ من القلة القليلة للدول العظمى التي يمكن الاعتماد عليها لضمان استمرارها وبقائها.
التراجع الإمبراطوري
يتعلق هذا العامل ببيع الأسلحة، إذ يكمن الهدف الاستراتيجي الرئيس لبريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية في إبراز قوتها العسكرية العابرة للقارات، وهذا بدوره يتطلّب قيام صناعة الأسلحة التي أصبحت تعتمد بصورة متزايدة على متطلبات التصدير الرئيسة، لكن تلك المتطلبات قد أخذت بالتراجع في مختلف أنحاء العالم نتيجة انتهاء الحرب الباردة، باستثناء دول الخليج التي تشتري نصف إنتاج الأسلحة البريطانية، وساعدت تلك الصادرات في محافظة بريطانيا على موقعها الثاني كقوة عالمياً، وجعلها قادرة على مواصلة إبراز قوتها في منطقة الخليج من خلال الدفاع عن حلفائها في الممالك الخليجية، لذلك نرى أن العنف الذي تمارسه الممالك العربية يقترن بالدعم البريطاني، إذ تدمّر الصادرات الرئيسة لطائرات تيفون اليمن من خلال الروابط الوثيقة في التعاون العسكري التي تشمل تسليح وتدريب قوات الأمن التي تنتهك حقوق الإنسان.
يبدو هذا الأمر بجلاء أيضاً من خلال الدعم الحالي الذي تقدّمه بريطانيا لإلحاق الضرر بالحركة السلمية المؤيدة للديمقراطية ذات القاعدة الشعبية الواسعة في البحرين منذ عام 2011 ما يعتبر مثالاً صارخاً عن تمسّكها بالنظام الإقليمي المحافظ،.
الدور الوضيع
يكرّس الوزراء المؤيدون لبريكست اهتماماتهم على ممالك الخليج كجزء من آمال تحدوهم في إعادة توجيه العلاقات الاقتصادية الخارجية بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، إذ تضاءلت فورة أسعار النفط على نحو ملحوظ في السنوات الأخيرة، وفي حال كان العالم جادّاً في التعامل مع مسألة التغير المناخي فإننا سنشهد انهياراً في الطلب على الوقود الاحفوري، الأمر الذي يقود إلى وقف تدفق الأموال من دول البترودولار، وانحسار تام في العلاقات الخليجية البريطانية، ربما يفضي تنامي الغضب الشعبي بشأن حرب اليمن وقتل جمال خاشقجي إلى زعزعة العلاقات السياسية، وربما يستمر الدور البريطاني التاريخي لفترة أطول، لكن ليس بوسعنا في الوقت الراهن إلا انتظار ما يفصح المستقبل عنه.
The Middle East Eye
ترجمة: ليندا سكوتي
التاريخ: الخميس 18-7-2019
رقم العدد : 17027