برغم التشابك الحاصل في ملفات الشمال والذي لايزال يفرز احترابات سياسية بين الأميركي والتركي، يبقى المشهد محكوماً بالرؤية السورية التي تضبط استراتيجيتها على إيقاع الميدان الذي تملك زمام أموره بالمطلق.
في قراءة السلوك الأميركي والتركي على الأرض، تبدو حالة الاشتباك واضحة بين الطرفين ، حيث لاتزال الملفات الخلافية حاضرة بقوة أمام حسم القضايا العالقة، برغم كل الحديث عن تسوية مقبلة بين الطرفين، قد يكون ضحيتها أدوات ومرتزقة الطرفين الذين يراهنون على الدعم والحماية الأميركية بشكل يجافي ويناقض حقائق الواقع وأحداث التاريخ التي تؤكد جميعها تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها وشركائها في سبيل تحقيق مصالحها الاستراتيجية.
على هذا النحو تندرج المشادة الأميركية التركية ضمن سياق محاولات الطرفين لابتزاز الطرف الآخر، فتصريحات اردوغان الاستعراضية خلال الأيام الماضية عن قيامه بشن عملية عسكرية ضد مرتزقة الولايات المتحدة في شرق الفرات، وما قابل ذلك على الجانب الأميركي من تحذيرات لأنقرة من القيام بأي عمل عسكري يؤكد أن أوراق المبازرة بين الطرفين لم تختمر بعد وأن ملفات الأرباح والأثمان لاتزال ضمن سياق الأخذ والرد والبيع والشراء.
المؤكد أن سلوك رئيس النظام التركي رجب أردوغان يؤكد حجم الخيبة الكبيرة التي وصلت إليها أنقرة في جملة من المسارات التي بدت تارة متوازية وكانت تارة أخرى متقاطعة ومتشابكة فيما بينها، في ظل تفاقم الوضع في مناطق خفض التصعيد التي يشكل فيها النظام التركي عنواناً لضمان تنفيذ اتفاق سوتشي، خصوصاً وأن الأخير لا يزال يتهرب من تقديم أجوبة مقنعة حول الأسباب الحقيقية التي تؤخر تنفيذ الاتفاق المذكور بعد مرور أشهر على تنفيذه.
قلنا في السابق إن إعلان أردوغان عن نيته بدء عملية عسكرية في الجزيرة السورية خلال الأيام القليلة المقبلة، يشكل عوداً على بدء واستحضاراً مجدداً لكل حوامل وعناوين التصعيد والتفجير التي لا تزال حاضرة في الأجندة التركية برغم كل الاخفاقات والخسائر المتراكمة لتركيا في هذا السياق، بمعنى أن هذه التصريحات المعروفة الأهداف والغايات لجهة محاولات البحث مرة أخرى عن مساحات وهوامش جديدة للابتزاز والاستثمار في فراغات المشهد، هي نسف لكل الاتفاقات والالتزامات التي تعهد بها رأس النظام التركي في الاجتماعات والمنابر الدولية.
يبدو أن النظام التركي في ظل المأزق المتفاقم مع الحليف الأميركي يحاول الولوج مجدداً من نافذة التصعيد والتهديد وفتح جبهات جديدة يحاول من خلالها التأثير على الأميركي للتنازل بما يسمى ( الورقة الكردية ) ناهيك عن الطموح الاردوغاني باحتلال أراض من سورية جديدة كما فعل عبر إرهابييه أو بشكل مباشر في مدن في الشمال السوري كعفرين ومنبج وغيرها من المناطق السورية.
أردوغان يحاول اليوم استكمال ما بدأه في عملية (درع الفرات) التي أطلقها ليكون له موطئ قدم على الجغرافيا السورية حيث تكون له قاعدة ارتكاز ومنصة انطلاق للتوسع في كل الاتجاهات بما يناسب ويحاكي مقتضيات اللحظة والضرورة ووفقاً لحركة وطبيعة العلاقات التركية مع باقي الأطراف سواء الروسي أم الأميركي أو بقية الأطراف بما يحقق لأنقرة أقصى درجات الاستثمار والابتزاز في كل المنعطفات والاستعصاءات والمنحنيات.
وفي هذا السياق فقد كشفت مصادر محلية أن الولايات المتحدة الأميركية قد قامت خلال اليومين الماضيين بإدخال قافلة من عشرات الشاحنات والعربات العسكرية التابعة لما يسمى (التحالف الدولي) وذلك دعماً لميليشيات (قسد) الانفصالية التي تحاصر الأهالي وتعتدي عليهم وتسرق النفط في المنطقة الشرقية، حيث رصدت مصادر أهلية وإعلامية دخول قافلة جديدة مؤلفة من 200 شاحنة محملة بمساعدات لوجستية وعربات عسكرية تابعة لـ (التحالف الأميركي) قادمة عبر معبر (سيمالكا) غير الشرعي الذي يربط محافظة الحسكة مع إقليم شمال العراق إلى مدينة القامشلي وذلك دعماً لميليشيات (قسد) والأسايش والتي تعمل بشكل متسارع على تنمية علاقاتها مع كيان العدو الإسرائيلي في مختلف المجالات، وهذا يرتبط بما كان قد تم كشفه بالوثائق منتصف الشهر الماضي عن رسالة رسمية تؤكد القبول بأن تمثل شركة (كاهانا) الإسرائيلية ما يسمى (مجلس سورية الديمقراطية) في جميع الأمور المتعلقة ببيع النفط المسروق من قبله وذلك بموافقة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية بمعدل 125 ألف برميل مع إعطاء (كاهانا) حق استكشاف النفط بمنطقة الجزيرة السورية.
بكل الأحوال يمكن القول إن المشهد وبرغم وجومه المفرط يرقد على باقة من الانزياحات والتحولات المتوقعة ليس في التصريحات والمواقف والسياسات فحسب، بل على صعيد الاستراتيجيات والإنجازات الميدانية التي قد تغير من صيرورة الأحداث بشكل عام، فالخط البياني للأحداث من المنظور الدولي يشير إلى أنه لا يزال خارج حالة الانضباط والاستقرار أي أن نبضاته لاتزال تراوح بين الارتفاع المقلق والانخفاض المخيف، وهذا مرده إلى عدم تبلور موقف دولي وإقليمي واضح حيال التعاطي مع المشهد السوري بشكل خاص والإقليمي بشكل عام.
فؤاد الوادي
التاريخ: الخميس 8-8-2019
الرقم: 17044