الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
إن الحضارة ليست مرحلة تاريخية بعينها، فهي الحصيلة الأرفع للتاريخ المادي والروحي للأمة منذ أقدم العصور إلى الآن. لذلك نجدها وثيقة الارتباط بمتغيرات لا حصر لها من ظواهر الحياة المنسجمة والمتنافرة، الحية والجامدة، التي عرفتها منطقتنا منذ بضعة آلاف من السنين. ومن المؤكد أنه لا سبيل إلى نهوض جديد دون محاولة الربط بين الأبنية الحضارية السابقة والواقع الحاضر ربطاً جدلياً عميقاً ومحكوماً برؤية موضوعية لحركة التاريخ المستمرة.
وانطلاقاً من الحاجة الشديدة لبعث هذا الكم الكبير من التراث الحضاري لمنطقتنا، ولكن ضمن سياقه التاريخي، أي عبر وضع كل لبنة فيه بمكانها الصحيح يأتي كتاب (ثقافة السريان في القرون الوسطى)، تأليف: نينا بيغو ليفسكايا، ترجمة: د. خلف الجراد، والصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ليؤكد أن تلك الحضارة الجبارة التي نعتز بها اليوم، لم تكن من صنع سلالة بعينها، أو جنس دون آخر، إنما هي نتيجة تضحيات هائلة قدمها سكان هذه المنطقة عبر آلاف السنين، فامتزجت عناصرها ومكوناتها في وحدة تاريخية – بشرية عضوية يستحيل الفصل بينها.
يقول قداسة مار أغناطيوس زكا الأول عيواص – بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس في مقدمة هذا الكتاب: «ما أبدع وما أروع أن تقرأ كتاباً نفيساً، كالكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم، إنه يضم بين دفتيه شذرات مختارة لحقبة زمنية من تاريخ السريان، كما أنه يرسم صورة واضحة لأولئك القوم الميامين، ويظهر ما كان لهم من مكانة مرموقة في مضمار الثقافة والحضارة، وما كان للغتهم السريانية وآدابها والعلوم التي كتبت بها أو نقلت إليها ومنها إلى لغات أخرى من تأثير في حضارات العالم المتنوعة».
المنهج التاريخي
يرى مترجم الكتاب د. خلف الجراد في المقدمة التي صدّر بها كتابه أن قيمة كتاب (ثقافة السريان في القرون الوسطى) تتلخص في كشف الصلات الطبيعية – الثقافية والجغرافية والبشرية والاقتصادية والاجتماعية ما بين السريان ومحيطهم، ناهيك عن الصلة القوية التي أبرزها الكتاب بين العلماء السريان والتطور الهائل للحضارة العربية – الإسلامية في العصر العباسي.
ويوضح د. الجراد أن مؤلفة الكتاب العالمة الكبيرة نينا بيغو ليفسكايا قد انطلقت في دراستها الثقافة السريانية في القرون الوسطى من موقف منهجي واضح، يستند إلى النظرة التاريخية – المتكاملة الشمولية، أي فهم التراث السرياني ضمن سياقه العام، على الرغم من اللون الذي غلب على ملامحه الأساسية في تلك الآونة، والمتمثل في هيمنة الجانب اللاهوتي – الكنسي، فاستطاعت بالاستناد إلى الوثائق والمعطيات المؤكدة والمصادر الأصلية (السريانية خاصة) البرهنة على أن الحضارة ليست ملكاً لأحد، وأن كل أبناء الجزيرة العربية، وما بين النهرين،… إلخ، قد أسهموا منذ أقدم الأزمنة في تشييد هذا البنيان الجبار، في هذه الحضارة الإنسانية الخالدة.
التعليم السرياني
يقع هذا الكتاب في فصلين عنون الأول منهما بـ (التعليم السرياني في القرون الوسطى) وهو يدرس أسلوب توصيل المعارف ونظام التعليم وتحديد درجاته، ومجالات العلوم التي تُدرّس وحجم المعلومات والمعارف المعطاة للدارسين. هذا إلى جانب الإضاءة على أكاديمية نصيبين، وهي الجامعة التي اشتهرت في القرون الوسطى، وحافظت على النظام الجامعي المبكر.
وتأتي أهمية التعليم السرياني من خلال الربط العضوي بين العلوم الوضعية، والعلوم الدينية، التي ركزت على مسائل إشكالية مثل طبيعة المسيح، والمجادلات اللاهوتية بين المذاهب المسيحية التي حددت أساساً مجمل الحركة الثقافية في ذلك الحين.
وتابعت مؤلفة الكتاب في هذا الفصل الحديث بشكل مفصل عن منجزات العلوم السريانية في فروع الفلسفة والطب والجغرافيا والفلك، والكيمياء والزراعة، كما أولت اهتماماً خاصاً لنشاط الترجمة عند السريان، حيث أدت هذه الترجمات دوراً فعالاً في انتقال المعارف والأفكار بين الكثير من شعوب العالم.
الإمبراطورية
حمل الفصل الثاني في هذا الكتاب عنوان (الإمبراطورية) وفيه ناقشت المؤلفة بالتفصيل حياة السريان في الشرق الأدنى، والعلاقة المتبادلة بينهم وبين الشعوب القاطنة في هذه المنطقة، وتابعت أشكال التبادل المعرفي وأساليب الحوار بين الثقافات السريانية واليونانية والفارسية، ودرست بدقة أوضاع السريان الاقتصادية والسياسية، ومدى إسهامهم في الحياة السياسية في المنطقة وعلى صعيد التجارة الدولية.
كما ركزت الباحثة كذلك على مسائل الأيديولوجيا، والنشوء التاريخي لديانات الدولة، والتأثيرات المتبادلة بين الزرادشتية والمسيحية، والعوامل السياسية لانتشار مختلف الطوائف والتيارات والمذاهب المسيحية كالنسطورية والمونوفيزية وغيرهما.
التاريخ: الثلاثاء9-10-2019
رقم العدد : 968