حماية الذاكرة من الاندثار

 

الملحق الثقافي:رنا سلوم:

بلغة البنفسج المقهور، كتبت «منال محمد يوسف» روايتها وقلبها يجالس أحزانه، خواطره ويجلد الذات، كانت الكاتبة هائمة حدّ التبعثر الوجداني، حدّ التحليق الوقتيّ، هائمة فوق الغيم الثاكل، تنادي الأحبّة، ولكن تاه صوتها، فبقيت الصور والأسماء والذكريات تُضيء ما تبقّى، هي الذكرى المؤلمة التي صنعت منها محبرة روايتها «الهائمة».
«سنبقى نتمنّى أن نولد في رواية الأقدار المستحيلة، رواية نكون من خلالها هائمين، ربّما.. في أفلاك الأزمنة والأمكنة معاً.. في أفلاك نورانيّة الدهشة؛ حيثُ تُلمح في أعين اليقين وتُسمّى «الهائمة».
رواية أبطالها أصبحوا تحت التراب، «على دروب عدرا العمّاليّة، سمعتُ أناشيد الحياة والموت معاً، ورأيتُ الطفولة بأسمى معانيها تُصلب. سمعتُ صوت الطفل بشر، يقول: كم تتألّم يا أبي، وأنتَ تحاول أن تأتي إلينا بذاك الموت الرحيم! لا تخجل منّا يا أبي. الموت هنا هو المنجى الذي نطمح إليه؛ هو ذاك الخلاص الذي ننشده».
تقصّدت الراوية أن تحمي ذاكرتنا من الاندثار والعبث، فكتبت عن حرب شعواء شبهتها برجل شاحبٍ أسود القلب غيّرَ وجه الزمان، وجعله أجعد، لا حياة فيه، ولا رتق، أما أبطالها فهم امرأة وطفلها ورد وزوجها يوسف. «حاولت من جديد أن أركض وراء ورد، كان على مقربة من ضفاف الوقت المستحيل، لمحتُ «حرب»، يركض وراء صغيري، ويُطلق الرصاص بشكل عشوائيّ، سمعتُ حبيبي يوسف يقول لي: انتبهي على نفسكِ. حاولي الاختباء وراء الأشجار، والتنقّل ببطء شديد. حاذري أن يمسك بكِ؛ الموتُ أهون من الذّل».
سردت الكاتبة حكاية أبطالها بطريقة وجدانية غابت فيها الأحداث المشوقة إلى حد ما، وغابت الحبكة المتينة التي تشد القارئ، ومع ذلك بسلاسة المفردات ووجدانيات المعنى تأخذنا معها، نتأثر، ونبكي ونلعن الحرب في نفوسنا وما خلفته من ندبات ذاكرة. «كيف يقولون عنّي جثّة هامدة، وبعض يزور قبري؟ وأنا ما زلتُ هائمة هنا وهناك، هائمة أكتبُ رواية على مهلٍ، وعلى وجعٍ، وعلى شوقٍ؛ روايتي تلك التي تُمثّل الآن ذاك الجزء الذي لا يتجزّأ منّي».
ومع ذلك، جفلت الكاتبة من الكلمة، ومن الجملة وفي النهاية «لا تعرف» التعبير باعتراف منها، إنه هول الحرب وإجرام الإرهاب ووحشيته «قلتُ: في هذه الرواية لا أريد أن أكرّر نفسي. لا أريد الكتابة بذات المحبرة، ولا أريد الوقوف على الأطلال.. وسمعتُ الأحجار تحدّثني عن شيءٍ ما، عن رواياتٍ كُتبت بلا أقلام، عن أفلامٍ نأمل أن تُصوّر قريباً، وقلتُ بيني وبين نفسي، هل سيحوّل هذا العمل الروائيّ إلى فيلمٍ؟».
لقد طغت على رواية «الهائمة» جمالية ما، ورؤية عميقة في التجربة الانسانية إضافة إلى عناوين فرعية جذبت وسهلت على القارئ القراءة «المسير من حيث ثباتي» «غيبوبتي ورحلة أخرى».
فلم تكتب أحداث الرواية إلا دموع الأطفال في سِفر شهادة وولادة «الشهيد نزار حسن، كان يكبرُ سنين الألم بزمنٍ آخر.. زمن يشبه أزمنة التجلّي، يُشبه الشيء الأرحب، الذي يشتهي كلٌ منّا أن يرحل إليه. حتّى إن رحلَ، وجد المظالم فيه مُلقاة على شطّ هذا الزمان. سمعته يقول: أسفي على هذا الزمان. أسفي على زمنٍ، فجّرتُ به نفسي وأولادي الصغار. وزوجتي الحبيبة، ماذا عنها؟!».
ولأن الكاتب لابد أن يكون وفياً كي تؤثر رسالته الفكرية، ذكرت الكاتبة دماء الشرفاء التي امتزجت مع دمائنا والتي أتت لمؤازرتنا ضد الإرهاب، «كنتُ أريدُ أن أقول لها: أتوجد لغة سينمائيّة، تستطيع تصوير جزء بسيط ممّا حدث، ولكنّ النطقُ مشكلتي. آهٍ من فلسفات العجز، التي تحيط بي، وتلقي بي في تلك الغيبوبة».
نعم لقد تحقق هاجس الراوية في كتابة نص لفيلم عن وحشية الحرب على بلدها سورية بعنوان «من موسكو إلى دمشق» وهو قيد الإنجاز.
بقيت الأرواح الهائمة تحرس هذا البلد الآمن، ومنها روح الطفل ورد: «قال لي: ماما تخيّلي وجودي وظلي يقتل الفراغ، تخيّلي أيّ شيء يريح قلبكِ المشتاق، لا أعرف، تخيّلته يركضُ إليّ، يقول لي، مللت القبر يا ماما، ملّلتُ غربته، وظلمته، مللت كلّ شيءٍ إلّا الشّوقُ للحياة، وأبجديّات النقاء والصفاء».
رواية «الهائمة» طباعة دار الهندسة والأدب. إنها الرواية التي لم ينته ألمها بعد، ستبقى مشرّعة على كلّ احتمالات الحياة.

 التاريخ: الثلاثاء22-10-2019

رقم العدد : 970

آخر الأخبار
تقرير مدلس.. سوريا تنفي اعتزامها تسليم مقاتلين "إيغور" إلى الصين محافظ السويداء يؤكد أنه لا صحة للشائعات المثيرة لقلق الأهالي  بدورته التاسعة عشرة.. سوريا تشارك في معرض دبي للطيران أحداث الساحل والسويداء أمام القضاء.. المحاكمات العلنية ترسم ملامح العدالة السورية الجديدة وزمن القمع... الاقتصاد في مواجهة "اختبار حقيقي" سوريا وقطر.. شراكة جديدة في مكافحة الفساد وبناء مؤسسات الدولة الرقابة كمدخل للتنمية.. كيف تستفيد دم... إعادة دراسة تعرفة النقل.. فرصة لتخفيف الأعباء أم مجرد وعود؟ منشآت صناعية "تحت الضغط" بعد ارتفاع التكاليف وفد روسي ضخم في دمشق.. قراءة في التحول الاستراتيجي للعلاقات السورية–الروسية وزير الخارجية الشيباني: سوريا لن تكون مصدر تهديد للصين زيارة الشرع إلى المركزي.. تطوير القطاع المصرفي ركيزة للنمو المؤتمر الدولي للعلاج الفيزيائي "نُحرّك الحياة من جديد" بحمص مناقشة أول رسالة ماجستير بكلية الطب البشري بعد التحرير خطة إصلاحية في "تربية درعا" بمشاركة سوريا.. ورشة إقليمية لتعزيز تقدير المخاطر الزلزالية في الجزائر    السعودية تسلّم سوريا أوّل شحنة من المنحة النفطية تحول دبلوماسي كبير.. كيف غيّرت سوريا موقعها بعد عام من التحرير؟ سوريا تشارك في القاهرة بمناقشات عربية لتطوير آليات مكافحة الجرائم الإلكترونية جمعية أمراض الهضم: نقص التجهيزات يعوق تحسين الخدمة الطبية هيئة التخطيط وصندوق السكان.. نحو منظومة بيانات متكاملة