لم تكن رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، لتكون علامة فارقة في أدب النهضة والتنوير والتثوير والمقاومة، لو لم تختضب بأرواح شخوصها الذين عاينهم وعايشهم وعاشهم الكاتب الشهير، ولو لم تقترن كما المفردة «الأرض»، بمفردة ملازمة لها متلازمة معها وهي «العِرض»، واللتان باتتا أكثر ما يسم مصائر الإنسان العربي منذ أشرقت حضارته وبالتالي باتت مهوى لكل غزوات الهمج والبرابرة عبر التاريخ.
الأرض السَّماء، الفتق والرتق، الذكر والأنثى، الربُّ والعبد، العلو والانخفاض، الـ «فوق» والـ «تحت»، السقيا والخصب، المطرُ والإنبات، البذرة والرحم، الأب والوالدة، الرب والأم، الإله العلي، المرأة الخالقة، كل هذا تختصره ثقافات الشعوب في الميثيولوجيا تحت مسمى «الأرض» «العرض» فكانت مبعث كل خصب، ومستودع كل من تسول له نفسه الاستباحة..
ومع الوقت، وكلما أوغلت في المعنى كلما كان للتغريبة العربية، وتحديداً التغريبة الفلسطينية، انتهاء بتغريبة أهل الشام، وهنا أقتبس التعبير من عنوان القصيدة الأشهر للشاعر السوري أيمن أبو الشعر، لتكون الأرض هي المحور والموضوع والاهتمام ومحط الأمل.. أن تؤخذ أرضك عنوة، هذا يعني أن تقتلع من جذورك، وأن تصبح كائناً منبتاً لا ذاكرة له ولا كيان ولا وزن ولا كرامة، أذكر كم كنت أجهش بالبكاء كلما أقلعت بي الطائرة من أرض وطني، وكأنني نبتة تقتلع من جذورها رويدا رويدا ولم تكن تهدأ عاصفة الدمع حتى تأخذ الطائرة مسارها في الجو، كما لا أنسى كم أجهشت بالبكاء لدى متابعتي لأول مرة العمل الفني المتميز «التغريبة الفلسطينية»، ولا أزال كذلك كلما أعدت مشاهدته، وكم تأخذني حالة الفخر والاستلاب كلما تذكرت شريط الأزمة السورية الحالية والتي شارفت على العقد من الزمن، هذا الشريط الذي يفعمني أسى كلما دخل الغرباء ليدنسوا هذه «الأرض» الطاهرة، وبالفخر كلما شاهدت زغرودة أم وهبت ابنها مقابل كرامة الأرض واسترجاعها وحمايتها هاتفه: «فدى الأرض فدى الوطن»، وأشعر بالكبرياء أكثر، كلما قرأت ما تجود به قريحة كاتب أي كاتب وطني غمس ريشته بحبر الوطن المدمى ليكتب ملاحم وفصول ما جرى على هذه الأرض بحياد الواثق من النصر، والواثق بحياده والواثق بقلمه الذي يسطر ماستقرؤه الأجيال بعده..
يشد العزائم ويشحذ الهمم ويستشرف الآتي مبشراً بالأمل في صباح 30 آذار من العام 1976 كانت عائلة خديجة تجلس على مصيف بيتهم، حين سمعوا صوت إطلاق رصاص في القرية فدخلوا إلى البيت ليكتشفوا أن خالد البالغ من العمر 8 سنوات ليس معهم، فأرسل الوالد خديجة للبحث عن أخيها ظنًا منه أن الجنود الإسرائيليين الذين فرضوا حظر التجوال في حينها، لن يقتلوا خديجة، ولكن عندما خرجت خديجة باغتتها قوة عسكرية إسرائيلية من شدة خوفها استدارت للعودة للبيت فقتلها الجنود برصاصة في الظهر كتب محمود درويش ليوم الأرض قصيدة بعنوان: الأرض, وخلّد فيها اسم خديجة شواهنة يقول فيها: «أنا الأرض, والأرض أنت خديجة! لاتغلقي الباب لا تدخلي في الغياب سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل سنطردهم من هواء الجليل».
وكذلك في الفن والغناء والأدب الشعبي نجد أهازيج كثيرة تتوحّد فيها البلاد للدفاع عن الأرض والبلد كان يمكن لي أن أتابع محنة «بعل السوري»، الذي واجه محنة الشر لتبقى الأرض عزيزة خيرة، هي ميثيولوجيا لكنها تتجسد حقيقة على الأرض السورية، كل حين من الزمان، لتؤكد مقولة الأم, الابن, الأرض, ثلاثي الأبد الذي لا ينهزم… كل حكاية عن كل مقاتل أو شريد أو مهجر أو طفل بعث من تحت الركام هي ملحمة بحد ذاتها تصلح لأن نعتبرها أسطورة العصر بل العصور مما سبق وقد يأتي… أسطورة خارقة في الثبات والدفاع والاستماتة من أجل الأرض… والعرض..
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 8-11-2019
الرقم: 17118