الملحق الثقافي:نرجس عمران:
كنتُ في وظيفتي اليومية أتجهز للمغادرة، وأنا حقاً في حيرة ٍكبيرةٍ. تتنازعني الرغبةُ في السفر تارةً، وتارةً يغلبني هَمُّ المنخفض القادم. وبينما كنتُ أتأرجح على حبال الحيرة، انتشلني رنين الخليوي المفاجيء، في الحقيقة هو نادراً ما يسمعني رنينه، لا أعرف ربما لأني قليلة الاتصال والتواصل مع الأخرين، وربما لأن الأخرين قد اعتادوا بُعدي فلا أخطر على بالِ أحدهم، وربما قد تكون الحقيقة بأنني مكروهةٌ ولا أحد يحب أن يكلمني أو يتحدث إليّ والله أعلم، وربما.. وربما… المهم أن رنين الخلوي كما الأرضي بالنسبة إلي نذير شؤم وهمٌ جديد، وإلا ما كان ليرن أصلاً، الحمدلله ليس لديَّ حبيبً ليطمئن عليَّ، ولا عشيقٌ ليتغزل بي. أما بالنسبة للأولاد وطلباتهم والنكد المتواصل فنحن على موعدٍ معه في البيت لاحقاً، فما هو سبب هذا الرنين يا ترى؟!
-ألو: مرحباً.
كيفك؟ ليكي سمعتِ إمي عطيتك عمرا.
-لاه لاه لاه.
تعيشي لكن راح جهز حالي حتى كون معكم.. باي.
باي.
في الحقيقة لقد حزنتُ لكن قليلاً ولم أكن أتوقع أن أحزن أصلاً. لا أعرف ربما لأن الموت فقَدَ رهبته، ربما لأني فقدتُ الأغلى والأقرب وأصبح الباقي تحصيل حاصل، ربما لأنني عشتُ بعيدةً عن أجواء الأهل والقرابة فلم ألمس ما يدعونه بكيمياء القرابة وصلة الرحم، ولم أحس بإحساس الدفء والعطف، كي أحزن على فقده اليوم.
المهم أنني عدتُ مسرعةً إلى بيتي، طبختُ أرزاً وفاصولياء ودخلت أبحث عن السواد الذي أكثرتُ من اقتنائه مؤخراً كي أرتديه مجدداً، ورغم ذلك ما كنتُ لأجد أبداً ما أريد
(وليكتمل النقر بالزعرور) هومثل عربي نقوله في مجتمعنا بمعنى، (فوق الموتي عصة قبر) وهو أيضاً مثل متداول في مجتمعنا بمعنى (كملتْ معي نحس من كل النواحي).
انقطعت ِالكهرباء ولم أعدْ أميز أصلاً ألوان الملابس لأختار ما أريده منها. تدبرتُ ما تيسر وتوكلتُ مسرعةً باتجاه بلدة العزاء وأنا أضرب وأجمع وأطرح أفكاراً قد يتداولها بعض المحبين أقصد المغرضين من قبيل من سيتناولون تأخري على محمل التعليق: (ما إجت ْما حضرتْ دفن قريبتها
وما.. و… وأخيراً وصلتُ البلدة بعد عدة تنقلات وسيارات، فالمكان بعيد نوعاً ما وهممتُ في اعتلاء هذه الدرب الحجرية الموحلة، هي قريةٌ والمنخفض لا يرحمها أصلاً وقلبه قاسٍ جداً على بيئة جبلية كهذه. أسعفني الحظ بجرعة تفاؤل ٍعندما نظرتُ أمامي وأنا أتمتم بعض الكلمات
من قبيل ( الله يرحمك كبيرتنا يعني ما عرفتي تموتي غير بهاد المنخفض) برد ورعد وتلج وريح ووحل كمان. فلقد رأيت أمامي على هذه الدرب المتكسرة المردومة صخوراً كما لو كانت مجرى لنهر قد جف أو ما شابه وإذا بنظري يأخذني إلى (رحيق). إنها قريبةٌ لي ومنذ أمدٍ بعيدٍ لم أرها
أنا ألهثُ أنفاسي وهي تعاني مما أعانيه وأكثر ولكن بابتسامةٍ مرهقةٍ وتحمل مظلتها وترفع بصعوبةٍ قدمها الطويلة لتعادل في سيرها قدمها الأقصر. مسكينةٌ كم كانت تعاني في طفولتها بسب خلع الولادة هذا؟! والأن أصبحت تعاني أكثر. لقد أصبحت أكثر وزناً وأكبر حجماً لتحملها قدمان متباينتان في الطول والوزن.
صافحتُها بشغفٍ وتمنيت ُ لو أني أستطيع أن أترك الموت لأهله وأبقى برفقتها كي أساعدها على هذه الدرب الصعبة، فأنا سوف لن أستطيع أن أقدم شيئاً أكثر من حضور الدفن ومراسم العزاء.
عندما اعتذرتُ من الغالية رحيق أجابتني قائلةً: اعذريني يتوجب عليَّ الإسراع كي أحضر مراسم الدفن.
تفهمتْ بطيبٍ وقدمتْ التعازي بكل لطفٍ. المهم أني وصلتُ أخيرأ المفرق الرئيسي الذي قادني إليه هذا الدرب فأنا ما كنتُ لأتذكره أصلاً. وبدأت ألتقي بالناس وهم يغادرون المأتم، طبعاً المطر مستمرٌ ولم يتوقف وعيناي بالأرض تارةً وتارةً أرفعها كي أرى من الذي مرَّ بجواري وفي أغلب المرات ما كنتُ لأعرفهم الكل تغير، الصغير كبُر والكبير شاب.
دخلتُ دار العزاء وبدأت التعازي، الناس ما أكثرهم؟! وما أبرد أيديهم؟! الكل وخصوصاً في الموت صاحب واجب وسبّاق إلى الحضور. دخلتُ غرفة النسوة الباقيات وسلمتُ على جميعهن وعزيتهن وعزوني لكون المتوفاة قريبتي، وعندما انتهيت بعد وقتٍ لا بأس به من واجب العزاء اخترت مكاناً لأجلس به وهو طبعاً بجوار أمي. لقد كانت بين المعزين. صافحتها وسلمتْ هي بدورها عليَّ بحرارة وقالت: أهلا أهلا يا ابنتي. لذلك نظرتُ إلى أمي مبتسمةً وجئتُ لأجلس قربها، وقلت لها مجدداً: كيف أنت يا أمي؟ نظرت إلي باستغرابٍ وحدقت بعمق في وجهي وقالت:
مين؟ وردة!! ويلي ما عرفتك كيفك يا أمي، كيفا صحتك؟! كيفن ولادك؟! فبدأتُ تحت وقع الأسى والأسف أوزع ابتسامات الخجل والعتب من وعلى الزمن الذي جعل أمي الطيبة لا تعرفني،
لقد صافحتني بحرارةِ الأم حقاً رغم أنها لم تعرفني بدايةً وكأي فتاةٍ عادية من شدة طيبها وحبها للجميع ولم يجعلني سلامها هذا أحس للحظة أنها لم تعرفني، لولا أنها عندما ناديتها أمي أجابتني باستغراب ودهشة كبيرين: مين؟ وردة!! عندها فقط عرفتُ أنها لم تعرفني بداية الأمر. مين؟ وردة! وذهبت مثلاً.
التاريخ: الثلاثاء26-11-2019
رقم العدد : 975