الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:
عُرف شوبنهاور بالتشاؤم، هو يعتقد أن الحياة دولاب يتأرجح بين الألم (عندما نريد شيء ما ولا نمتلكه)، والضجر (عندما نمتلك الشيء ولم نعد نهتم به). هو أيضاً يرى أن أساس فهم الحياة هو التفكير في الصراع لأجل البقاء، وخاصة الحصول على الطعام. لننظر في طبق البيتزا المصنوع من لحم البقر. بالنسبة إلى البقر التي تُصنع من لحمها البيتزا يُعد الأمر كابوساً: لكي يوفروا اللحم لابد من تربية السجين ثم ذبحه وتقطيعه ثم أكله. (الحياة بالنسبة إلى الحيوانات البرية ليست أفضل حالاً، كل ما هنالك يتم استبدال حياة الحيوان السجين المحصور في مكان معين بحياة الخوف والصراع المستمر لأجل البقاء وباحتمال أن تنتهي حياته في مواجهة مجموعة من الحيوانات الجائعة لتأكله حياً). أحياناً ينال المرء تعاملاً لائقاً وإيجابياً، ولكن نسبياً، ليس هناك الكثير من الراحة، ففي أي مكان من الحياة يتفوق الألم على المتعة بشكل كبير.
وهناك ما هو مشابه مع أنه أقل عنفاً يُقال عن حياة معظم الناس. نحن نكره المدرسة، ولا نستطيع الانتظار حتى ننضج، نكره العمل أو كوننا (عاطلين)، ولا نستطيع الانتظار حتى سن التقاعد، حينذاك سنكره الضجر، السأم، وظروف الخجل أو عدم احترام كبار السن.
هذا النوع من التفكير هو الشائع لدى شوبنهاور. لكنه ليس كل القصة. شوبنهاور المتفائل لديه أخبار جيدة لكل منْ يقبل برؤيته التشاؤمية. أنت تعتقد أننا أفضل من الأموات؟ حسناً، ولكن لماذا؟ (طبقاً لشوبنهاور) نحن سنكون أمواتاً، وقبل أن يمضي وقت طويل سوف لن نعاني إلى الأبد في الجحيم. عندما نموت، نموت، وما كنّا عليه سيصبح تراباً.
هل تلك أخبار جيدة؟ نعم: هل تعتقد أن التراب شيء سيء؟ «من بقايا إلى بقايا، ومن تراب إلى تراب» ربما يبدو شيء سيء؟ لكن التراب شيء عظيم. كما يقول شوبنهاور في «العالم كرغبة وتجسيد»:
«تعلّم أن تعرفها قبل التقليل من أهميتها. هذه المادة التي تكمن الآن كتراب وبقايا سوف تتحلل حالاً في الماء، من ذاتها إلى بلّور (كريستال)، سوف تلمع كالمعدن، ثم تطلق شراراً كهربائياً، وبسبب كهربائيتها المكثفة ستجسد قوة تتحلل بدورها إلى أقرب العناصر، مختزلة الأرض إلى معادن، إنها سوف تكوّن ذاتها من دون أن يُطلب منها ذلك إلى نباتات وحيوانات، ومن رحمها الأسطوري تتطوّر الحياة التي لفقدانها نكون قلقين جداً».
نحن سوف نموت، لكن المادة التي خُلقنا منها ستبقى. هذه أخبار جيدة لأن المادة ساحرة، وحياتنا مليئة بالألم. المادة التي صُنعنا منها لا يمكن تحطيمها، وسوف تكوّن كريستالاً ومعادن ونباتات وحتى حيوانات. إنه شيء رائع. نحن من جهة أخرى، مع أننا صُنعنا من مادة رائعة، لكننا سنكون ضحية للقلق والمعاناة. ومن الأفضل لو يصل ذلك القلق والمعاناة إلى نهايتهما.
ليست فقط المادة ساحرة. كل شيء هو ساحر. هذا يوضح لماذا الفنانون العظام يستطيعون رسم أو التقاط صورة لأي شيء ويخلقون منه عملاً فنياً راقياً. نحن عادة لا ندرك هذا الجمال العالمي بسبب أنانيتنا. بكلمة أخرى، نحن نهتم كثيراً بأنفسنا وقليلاً ببقية العالم. نحن نميل لنهتم قليلاً بالأشياء التي لا نريد امتلاكها، أما الأشياء التي نريدها حقاً، هي إما تقلقنا لأننا لا نستطيع امتلاكها، أو أنها في النهاية تزعجنا عندما نمتلكها.
عالم هادف
ولكن ماذا لو تخلّينا عن الرغبة أو التفكير في حيازة الشيء، بعيداً عن الخوف أو التفكير فيما يعنيه الشيء لنا؟ ماذا لو نترك الأشياء فقط لتكون؟
هذا هو النوع من إمكانية الحياة التي تعرضها لنا اللوحة. لا سؤال هناك عن أكل الفاكهة في اللوحة أو شراء المزرعة في الريف- وعندما تزول إمكانية الاستعمال أو الامتلاك، عندما نتحرر من رغبتنا الجامحة، وعقولنا تتحول إلى تأمل بسيط، نحن نستطيع في النهاية التمتع براحة البال ونرى كم هي الأشياء جميلة – كل الأشياء-. الفن يستطيع توضيح هذا لنا، أي لماذا نحبه: ولكن عندما تضع ذهنك في الموقف الصحيح، سوف تستطيع في كل يوم ممارسة الأشياء، كما لو كانت فناً من دون الحاجة إلى إنفاق الملايين على الأعمال الفنية. العالم ذاته قطعة فنية كبيرة، وهو متاح مجاناً للتمتع به.
كتاب شوبنهاور يسمى (العالم كرغبة وتجسيد) لأنه يعتقد أن العالم يمتلك هذين المظهرين. التجسيد هو كيف تبدو لنا الأشياء. إنه كل الظهور، ليس أكثر واقعية من الحلم، والرغبة التي هي الطبيعة الحقيقية المؤطرة للعالم.
ماذا يعني هذا؟ (للتبسيط أكثر) حسب شوبنهاور، هو أنني أعرف في وجودي الحقيقي الداخلي، بأنني رغبتي، ومن السخف الاعتقاد أنني شيء ما متفرد، لذا كل شيء يجب أن يكون رغبة. كيف أعرف أنا في النهاية رغبة؟ أنا أعرف أنني لست جسماً ميتاً. الاختلاف الكبير بيني وبين الميت هو أنني أعمل أشياء لا تتم بالتآكل البطيء. لذا فإن أفعالي تجعلني منْ أو ماذا أنا. أفعالي تعبّر أو تجسّد رغبتي. أنا ما أعمل وأنا أعمل ما أرغب. حتى عندما لا أقوم بما أريد عمله (مثلاً عندما أكون في العمل) أنا أعمل ما اخترت أن أعمل لسبب معين، كأن يكون الرغبة في الحصول على الراتب. أنا إذاً تجسيد لرغبتي. ولا يوجد هناك سبب للاعتقاد أنني خاص في هذا الشأن. أنت تجسيد لرغبتك. والشيء ذاته ينطبق على الحيوانات وكل الأشياء الحية، وبالنسبة إلى شوبنهاور حتى الأشياء غير الحية أيضاً.
النباتات غير واعية، لكنها تنمو بطرق تساعدها في إيجاد ضوء الشمس والماء وفرص التكاثر. إنها تُقاد بالرغبة بالحياة. حتى الأشياء غير الحية تخلق مواد خاماً. الأنهار تجري إلى البحر، الجبال تنمو ببطء أو تتآكل، وهكذا. شوبنهاور لا يعني أن الأنهار تريد أن تتبع المنحدرات، وإنما تدفّقها هو تعبير عن الرغبة. نحن نعرف أن الأشياء الحية تتصرف بدافع الرغبة (تتجسد كرغبة لتعيش)، وأن الأشياء الحية تُصنع من نفس المادة كما في الأشياء غير الحية. لذا، كما شوبنهاور، نحن نستطيع التفكير بكل الأشياء كأنها تتحفز بنفس القوة الأساسية التي يمكن أن نسميها رغبة. هذه الرغبة لن تقتنع أبداً طالما أن الطبيعة الدقيقة للرغبة هي الكفاح لأجل أشياء أخرى، وأنها ليست عقلانية، لذا فإنها تطلب دائماً وبجشع. هذا يبدو مخيفاً نوعاً ما، كفم مفتوح دائماً. غير أن شوبنهاور يقول إننا نستطيع القول بنفس الطريقة إن العالم ليس رغبة وإنما موسيقى.
الموسيقى، المادة، المعنى
يرى شوبنهاور أن الموسيقى يمكنها أن تحرّكنا بقوة من دون أن تمثل بذاتها أي شيء في العالم المتجسد. هذا يبيّن، أولاً، أن الموسيقى يمكن أن تكون تجسيداً مباشراً للرغبة، لم يتوسطها أي شيء آخر. الموسيقى أو القصة ربما تملؤنا بالخوف من تصوّر وحش عملاق أو معركة، تؤثر على ذاتنا الداخلية حين تجعلنا نفكر بالأشياء التي نخاف منها. لكن الموسيقى يمكنها ومن دون أي تدّخل فكري، أن تتحدث مباشرة عن الرغبة. بهذا المعنى هو يعتقد أن الموسيقى يمكن أن تكون تجسيداً مباشراً للرغبة ذاتها.
وفي جدال آخر، يكشف أن الموسيقى تشبه الرغبة. الرغبة العمياء التي يفترض شوبنهاور أنها تؤطر طبيعة الواقع هي ليس لها أي هدف: إنها فقط تريد، بدون أن تريد أي شيء محدد يمكن أن يشبعها. إنها موجهة نحو هدف من دون هدف محدد. هذا يجعلها مشابهة جداً للفن كما عُرّف من قبل عمانوئيل كانط. كانط ذكر أن الفن، خاصة الفن الجميل، هو هدفية من دون هدف. بهذا المعنى، يصبح ما هو واقعي حقاً (الرغبة) وما هو جميل حقاً (الفن العظيم، مثلاً) هما الشيء ذاته. شوبنهاور يعتبر الموسيقى أرقى أشكال الفن. لذا فإن الموسيقى تشبه الحقيقة النهائية – وهو ما يعني أن الحقيقة النهائية تشبه الموسيقى. «نحن لهذا السبب نستطيع القول إن العالم يجسد الموسيقى كما يجسد الرغبة».
ذكر الشاعر والروائي الالماني غوته Goethe أن البناء المعماري هو عبارة عن «موسيقى جامدة»، لكن شوبنهاور يرى أن كل شيء يمكن تصوره كموسيقى متجسدة. وكما لاحظنا، هو يرى الأشياء المادية عُرّفت ليس كثيراً بما صُنعت منه وإنما بما تقوم به. لذا فإن كل شيء يقوم بما هو تجسيد مادي أو تجسيد موسيقي. الكون هو عرض راقص، أو مهما كان نستطيع تسميته موسيقى متحركة بثلاثة أبعاد. القطارات تقوم بحركة، سمك القرش يجسد القرش، البراكين تجسد البراكين وهكذا. عندما تسير على طول الشارع ، كل شيء تجتازه يمارس رقصته الخاصة، معبّراً عن الرغبة بطريقته. كل نبتة تشبه الانفجار البطيء للأغصان، الأوراق والأزهار. التلال هي حقاً صيرورة حية تنبض بصوت الموسيقى «الصامتة». لكنها ليست انفرادية تماماً كما نصفها نحن، لأنه طبقاً لشوبنهاور الكل هو واحد. لذا بينما القطط تعمل كقطط وقوس قزح يبدو كقوس قزح، لكن كل هذا هو جزء من سيمفونية واحدة ضخمة. الطبيعة هي تناغم، تؤطرها وتحركها رغبة واحدة وليست متعددة.
كتب ت. س. إليوت في « The Dry Salvages»(المقالة الثالثة من مجموع أربع، 1941) «أنت الموسيقى طالما الموسيقى تستمر». هذا ما يعتقد به شوبنهاور أيضاً لكنه يضيف أنه الموسيقى أيضاً، وكذلك إليوت، وكل شخص أو شيء آخر. وبينما لا يستمر أحدنا إلى الأبد، لكن الموسيقى تستمر. إنها خالدة.
خلاص شوبنهاور
الفن، وخاصة الموسيقى وأي شيء آخر حين يدفعنا إلى تأمل الحقيقة النهائية من دون إشراك رغبتنا الخاصة، فهو يقدّم لنا علاجا للرغبة والضجر. أنت ربما تنزعج من أشياء لديك، ولكن ماذا عن الأشياء التي ليست لديك؟ إنها رائعة، فقط عندما تتغلب على أنانيتك بما يكفي لتقدير تلك الأشياء.
يبدو أن شوبنهاور نجح أحياناً في تحقيق نوع من السعادة الغامرة بين عجائب الطبيعة. في إحدى المرات هو أضاع نفسه بين الأزهار في حديقة Dresden. المسؤول الذي شاهده سأله منْ هو، شوبنهاور أجاب أنه يرغب لو هو (المسؤول) أخبره بذلك. كل واحد يمكن أن يكون هو الغريب بين الأزهار لو قبل بفلسفة شوبنهاور.
لسوء الحظ ، فلسفة شوبنهاور لا توفر علاجاً للألم. لكنها لا تخلق الألم أيضاً، إنها فقط تعترف بحجم المعاناة. إنها تسلط الضوء على مقدار الجمال والدهشة في العالم، وبعمل كهذا، تجعلنا ربما اقل رغبة في أكل اللحوم. إذا لم نأكل تلك البيتزا الحيوانية، مفضلين البيتزا النباتية، سوف نقلل المعاناة في العالم. سوف لا نقلل معاناتنا، بالطبع، ولكن كلما اعتنينا أكثر بالزهور والحيوانات وكل شيء آخر، كلما كانت رعايتنا لمشاكلنا الخاصة قليلة، والتي هي مؤقتة وعديمة الأهمية.
الاختلاف بيني وبين الآخر هو تافه كلون الشعر، العمر، اللباس، وهكذا. لكن المشترك بيننا هو أكثر أهمية، هو إنسانيتنا. المشترك بيننا وبين كل الأشياء الحية وحتى غير الحية هو أفضل، نحن كلنا تجسيد للرغبة الأبدية.
الوجود ذاته شيء هائل. عندما نموت ستموت المادة التافهة معنا، لكن الشيء الهام سيستمر. إن ما هو حقيقي جداً وأكثر واقعية، هو غير فان، وتلك حقاً أخبار جيدة.
Schopenhauer the optimist, philosophy Now, Oct-Nov 2019
التاريخ: الثلاثاء26-11-2019
رقم العدد : 975