من الطبيعي أن تتعرج خطاك وأنت تسير في قلب المدينة المتعجرفة، يراودك شعور بأنك لا تعرف هذه المدينة وأنك لست ابنها الذي لعب على أرصفتها ودكّ المسافات بين الجامعة وبين حدائقها.. تريد أن ترتاح في أحد المقاهي التي تزين زوايا الشوارع المزدحمة كي تدخن بعض همومك مع فنجان قهوة.. لكن الأسعار -النار- تقف لك بالمرصاد.. فإذا كنت في بيتك تعجز عن شراء القهوة لتشربها كعادة صباحية طيلة الشهر فكيف ستدفع ثمن قهوة الكافيتيريا مع كأس ماء مثلج؟.
برأيي اترك هذه الرغبة على الرصيف وامش.. لا تقل لأحد أنك قصير اليد.. دعك في سترتك الجلدية التي اشتريتها من البالة، وحافظ على لياقتك المعنوية أمام الناس وتدرج مثل ديك منفوش.. فهذا الزمن لا يحب الصراحة ولا يحب الفقراء.. إنه زمن المال والأعمال والسيارات ذات الأرقام الذهبية.. لا تخبر أحداً أن حذاءك من البالة أيضاً.
تستطيع أن تتدرج كما تشاء في الحديقة.. وتمشي على ضفة النهر.. أو تجلس على مقاعد الكورنيش.. ضع الكمامات الطبية حتى لا تشم الروائح العفنة لبعض التجار والسماسرة.. راقب السيارات التي تعبر.. ستأخذك الدهشة.. كأننا لسنا في حرب.. سيارات على مدّ النظر.. كل سيارة فيها شخص واحد أو اثنان على الأكثر.. تستغرب لماذا لا يكون هناك باصات أنيقة، تمشي بمواعيد معينة وتكفي الناس شرّ هذه الزحمة وشرّ التلوث.. وتخفف قليلاً من عجرفة الناس الذين ينظرون إليك من وراء زجاج معتم والدخان يتصاعد من عقولهم.
لم تزدنا الحرب إلا (منفخة وعجرفة)
هذا مدعوم.. هذا ابن فلان.. هذا تحول إلى تاجر كبير.. هذا ابن حرامي لا تطوله اليد.. تلك زوجة مسؤول وحولها حراس وسائقون و…
والحرب..؟ الحرب يا ناس، وهذا الشاب الذي يجتاز الشارع في عربة عجلات المعوقين؟ وتلك الطفلة التي تمدّ يدها للعابرين طيلة النهار؟ وهذا الكسيح الذي يعرج مقترباً من السيارات الحديثة ليمسح بيد واحدة زجاجها الفاخر.. وتلك الأرملة التي ذهب زوجها ولم يرجع وهي الآن مسؤولة عن تربية (أكوام اللحم التي في بيتها)؟.
مع ذلك المقاهي مزدحمة ورائحة القهوة بالهيل تفوح عبر الشوارع والساحات.. لكنك ستردد على مسامعك وحدك (أنا لا أحب القهوة بالهيل).
هل أنت هارب من الوظيفة؟ أم هي الوظيفة هربت منك؟
ستسخر من صديقتك وتقول لها (لا أحب وظائف الدولة.. راتب قليل ومهين.. سأحاول فتح شركة)
شركة بحالها؟
اتق الله يا رجل.. كأنك (ثري حرب).. لقد تخرجت من الجامعة منذ عشر سنوات وها أنت تقترب من عقدك الرابع.. لم تترك مسابقة إلا وقدمت لها أوراقك وشهاداتك.. مع ذلك لا يوجد شاغر.. لا يوجد اعتماد.. لا يوجد سوى شاغر واحد ذهب لأحد المهمين.. يعني لابنه أو ابنته أو زوجته التي تحب أن تثبت لزميلاتها بأنها تستطيع أن (تتوظف فوراً) مع أن الراتب لا يشتري لها حذاء.. لكن هي من باب المشاركة في بناء الوطن.. وخاصة في هذه الحرب اللعينة التي تحتاج إلى الأكفاء والاختصاصيين.. فلماذا ستقعد عن العمل ولديها – طباخة، ومدبرة منزل.. وخادمة للتنظيف؟.
كتير عال.. لكن كل الخوف أن تكون تلك الطباخة زوجة شهيد أو زوجة جريح زرع بعضاً من أعضاء جسده في تراب الوطن..
آه يا وطن.. تكفي هذه العبارة لتكون هي رواية الوجع.. وقصة تسع سنوات من التضحية والأمل والفقر والبطالة والحلم.
آخ يا وطن.. وهذه العبارة تكفي لتخبرنا عن وطن كان لنا وحدنا نحن السوريين.. وكانت خيراته تبنيه وتعلم أبناءه وتحميه.. اليوم يقاسمنا الأميركي والتركي والغربي هذه الخيرات، ويسرقوننا على عينك يا تاجر والأمم المتحدة تصفق لهم والمجتمع الدولي أخرس أبكم.. فضلاً عن طبقة الانتهازيين والمتطفلين والفاسدين.
يكفيك تدرجاً.. ويكفي أن ترى أن بعض الرؤيا موجعة وبعض الرؤى قاتلة.. عد إلى بيتك.. البيت غطاء السر والحلم والانكسار.. بإمكانك أن تصرخ على هواك شرط ألا يسمعك سوى نفسك، كفى بك شاهداً على بلاد صابرة حائرة.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 18 – 12-2019
رقم العدد : 17149