قيل في العصر الذي سقطت فيه حالة التوازن في القرار الدولي بعد انهيار نظام القطبية الثنائية من النظام الدولي وانتهت الحرب الباردة لتنفرد أميركا قطباً وحيداً مهيمناً على الإدارة العالمية إن النظام العالمي سيُدخل بزعامة أميركا المجتمع الدولي حالةَ الاستقرار التي تحلم فيها البشرية على أعقاب حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم. وكثر الرهان الدولي حول قدرة أميركا على إدارة النظام العالمي كشرطي وحيد فمنهم من جرى وراء الدجل في الحرية الذي تدّعيه إدارات أميركا المتعاقبة، ومنهم من أكد بيقين برهاني على أن أميركا لا تمتلك الأخلاق العالمية المطلوبة لقيادة النظام الدولي وكان كتاب يفغيني بريماكوف وزير خارجية الاتحاد الروسي واضحاً في هذا المذهب ولاسيما حين حصلت حوادث الحادي عشر من أيلول 2001م وافتضح الأمر الأميركي بأن أميركا تبحث عن ذريعة لكي تشنّ حروبها وراء البحار ومن خارج القرار العالمي في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة حيث صارت تنظر إلى هاتين المؤسستين على أنهما ملحقتان بالإدارة المركزية الخارجية لأميركا وليس للشرعية الدولية. وخلافاً لما تمّ زعمه بأن حلّ حلف وارسو الشيوعي سيُدخل الأمن والسلم الدوليين في حالة من الاستقرار وضمان المصالح الدولية المشتركة في العلاقات الدولية المتكافئة حيث أخذ طغيان حلف الأطلسي الإمبريالي يزداد بعد أن كان التوقّع الدولي بضرورة حلّه لكي تدخل العالمية نظام العلاقات بدون أحلاف. نعم بدأت أميركا تدعّم الحلف شمال الأطلسي وتمدّ انتشاره باتجاه أوروبا الشرقية حتى يقترب أكثر فأكثر من المجال الحيوي للاتحاد الروسي ثم ليصبح لاحقاً في الدول التي كانت ضمن منظومة الاتحاد السوفياتي سابقاً. وما زلنا نذكر حوادث جورجيا وكيف اضطر الجيش الروسي إلى حسم الأمر عسكرياً، وحوادث أوكرانيا مؤخراً كيف اضطرّ الاتحاد الروسي أن يستعيد القرم. وبناء عليه فالمجتمع الدولي لم يشهد نظام العدل والتكافؤ الدوليين منذ العام 1991م وانهيار نظام القطبية الثنائية وصَدَقَ مَنْ ذهب إلى أن أميركا لا تمتلك الرصيد الأخلاقي الذي يؤهلها إلى قيادة النظام الدولي على وجه عادل. ومن تجربة المتغيرات الدولية من 1985 إلى 1991م، إلى تجربة ما أسموه الثورات والربيع العربي المزعوم توصلت البشرية الحاضرة إلى أن كل حالة دولية، أو إقليمية تكون أميركا المحرك الأساس وراءها لم تخدم سوى الصهيونية وكيانها العنصري وكل سياسة أميركية ما وراء البحار تُرسم لمصلحة الصهيونية وحسب. وما أصبحنا فيه اليوم بعد سنوات تسع على الحرب الإرهابية على سورية لتدميرها والانفراد بالقرار العربي عبر مؤسستيه: الجامعة، والقمة ألا يلفت النظر بأن الديمقراطية العربية المنشودة هي التي ستسمح للحاكم العربي بأن يتحالف مع كيان الصهيونية ويتنازل لها عمّا احتلته من أرض واغتصبته من حقوق؟! وما تدعو له اليوم وممالك الرمال والمشيخات ألا يشير إلى أن إسرائيل مهما فعلت على أرض فلسطين أو في غور الأردن ووادي عربة، وفي الجولان وجنوب لبنان لم تعد تحتسب فيه عند أعراب الرمال على الكيان المحتل الغاصب بل أصبح حسابها موقوفاً على خانة الأصدقاء إرضاءً لأميركا المتصهينة وتابعتها المطيعة المملكة البريطانية؟ نعم لقد ذاب الثلج، وبان المرج عند العقلاء الوطنيين لكن عند العملاء المرتبطين ما تزال أميركا الملجأ ولذلك لم يتجرؤوا على إدانتها حين دخلت بقواتها إلى الأرض السورية بغطرسة القوة ومن خارج قراري: مجلس الأمن الدولي، أو الدولة الشرعية السورية. فالمرتبطون لا يجدون بأميركا عدوّاً محتلاً، ولا بإسرائيل عدواً مغتصباً بل يجدونهما داعمين للثورة والإرهاب الذي يدعم ويدار من خارج الحدود الوطنية، وبمعزل عن إرادة الجماهير يسمى عندهم ثورة حتى يغطّوا الاحتلال الإمبريالي الأطلسي لأراضٍ من بلدنا، ولكي يسكتوا بتواطؤ مذل عن نهب البترول السوري وخيرات الأرض والبشر المواطنين في بلدنا. ومع ذلك فهم أي البائعون أنفسهم لأعداء أمتهم ما زالوا يجدون أميركا أنها المصمّم الوحيد للدستور المزمع عبر تداول لجنة مناقشة الدستور التي باشرت عملها. ووفقاً لمقتضاه من المطلوب منا اليوم نحن السوريين أن نجتمع على حقيقة وطنية واحدة توحي لنا بأن بلدنا إذا ما تُرك على حالة الاشتباك الدولي الحاصل عليه، واستمر وقوفنا الوطني يميل إلى حالة انتظار ما سيسفر عنه تقدم الميدان لجيشنا البطل وحلفائه ولا سيما النصر المقترب في إدلب وغرب حلب فهذا الحال لا يعكس الوقفة الوطنية المعروفة بالسوريين، ولا الدور الوطني الذي يتعيّن عليهم أن يلعبوه والذي أتصوره يدعونا إلى التلاحم، والظهور بمظهر الشعب الرافض لاحتلال أمريكا وأطلسييها لأرض من بلدنا الغالي، والرافض والمقاوم للوجود الإرهابي المدعوم من أردوغان، وأن يختبر شعبنا طاقاته الكاملة في دعم تقدم جيشه، وتعزيز مقاومة بلده، ودفع ضريبة التحرر التي ما زلنا ندفعها منذ زمن العثمانيين إلى زمن الفرنسيين إلى زمن الصهاينة اليوم. نعم أشعر بأن ثمّة عملاً نستطيع أن ننجزه نحن الشعب فمن سيمنعنا من التلاقي على ميثاق وطني متجدّد تشكلّ فيه جبهة داخلية تقول لأميركا ومعها أطلسيوها أخرجوا من بلادنا، ومن الواضح حين يتخرّص ترامب بأنه سيمنع الدولة السورية من الانتفاع من بترولها بدون أن يقول له المجتمع الدولي، أو الأعراب: ما علاقتك بذلك، وهل هذا التخرّص يقرّه القانون الدولي نعم من الواضح أننا أمام غطرسة دولية أميركية تتدخل حتى في شكل المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة لكي تأتي للإرهابيين أكثر مما تذهب للمدنيين السوريين المهجرين، أو الذين هم دروع بشرية عند النُّصرة وأخواتها. وما يجب أن نضعه أولوية نحن السوريين أن أميركا وحلفاءها المعتدين على بلدنا لن يعترفوا لنا بأي نصر ميداني على الإرهاب وسيعملون على إطالة زمن الحرب الإرهابية علينا، ولو بخلق حقبة صراع داخلي عبر حرب المفاهيم، والمصطلحات، أو الحرب الإليكترونية الافتراضية، أو تشغيل الخلايا النائمة لزعزعة الأمن الداخلي والسلم الأهلي. إن كل ذلك من شأنه أن يدعونا إلى اجتراح أساليب التلاقي، والتعاون الوطني الذي سيهزم كل وطنية مريضة، وسيهزم الأعداء الإرهابيين ومن يساندهم ليصبح نصرنا ناجزاً وعدونا مدحوراً.
د. فايز عز الدين
التاريخ: الجمعة 27-12-2019
الرقم: 17156