الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
قد يعجب الشاب بفتاة ويهيم بها، وقد يعجب القارئ بشاعر أو كاتب، وقد يعجب الجمهور بقائد أو زعيم أو موسيقيٍّ كبير..
هذا الإحساس الغامض، ليس مهماً كيف يتكوُّن وما أسبابه، المهم أنه موجود ولا بدّ منه لإحداث التفاعل. باعتقادي هو سابق للتذوّق والفهم، وهو أعمُّ وأشمل لأنَّه انفعالٌ فرديٌّ وجمعيٌّ، والإعجاب الجمعي، في حدوده القصوى، هو الذي يخلق الأساطير.
ربّما بعضنا يتذكَّر حادثة مصرع «الأميرة ديانا» زوجة الأمير الإنكليزي «تشارلز» التي توافرت لها كل الظروف لتكون أسطورة رومنطيقية، في عصر غير رومنطيقي ويفترض أنه لا يحتمل هذا النوع من الأساطير! كان قطّاعٌ كبير من الناس في بريطانيا والعالم منبهراً بهذه السيدة المتفلّتة من التقاليد المحافظة للعائلة المالكة في بريطانيا، وهي تتحدَّر من الطبقات الشعبية. وعلى الرغم من أنها لم تكن جميلة إلى هذا الحد، وتصرفاتها كانت مبتذلة، وهي زوجةُ أميرٍ وأمٌّ لطفلين أميرين! وعادةً لا يغفر الناس في كل المجتمعات مثل هذا الشطح، ولكن كان ثمة غموض في معرفة سرِّ هذا الإعجاب، الذي تضاعف ووصل حدوده القصوى في مصرعها الغامض والمفاجئ مع «دودي»! ولو أن المأسوف على شبابه «دودي» لقي مصرعه وحيداً، لما نال من الاهتمام أكثر من خبرٍ صغير في ذيل صحيفة، لكن الأميرة ديانا رفعته معها إلى مرتبة البطولة! فهل كان العالم يحتاج إلى أسطورة جديدة، أو هي قصة صنعتها وسائل الإعلام (الميديا) لتستثمرها في السينما والدراما؟! ووسائل الإعلام (الميديا) تصنع العجائب في هذا الزمن!
الأساطيرُ عادةً لا تتمتَّع بالعمقِ الكافي للإقناع، ولو خضعت للتحليل أو التأمل، لتبيّن مقدار بساطتها إن لم نقل مقدار تفاهتها! فنتأمَّل قصة هيلين وحرب طروادة، على سبيل المثال، هي التي نشأت عنها حربٌ كبرى، فهي أكبر ملحمة إغريقية تلقَّفتها الثقافة الأوروبية واستأثرت بها، وقس على ذلك بقية الأساطير التي كانت أقل منها تأثيراً! فأين هي هذه الأسطورة من أسطورة جلجامش البابلية، من حيث العمق والسمو؟! ولكن الأمور لا تقاس وفق هذا المقياس، فللناس في شؤونها عجب! ونحن نتكلّم عن الإعجاب. قد يتسم الإعجاب بطابع طفولي، هذا ما يجعله يفلت من التحليل ومن المنطق بعض الشيء، وربما هذا ما دفع كارل ماركس إلى وصف العصر الإغريقي بـ»طفولة البشرية»، وهو بلا شك (العصر الإغريقي) مثير للإعجاب. والإعجاب يتحوَّل بقوة الحماس والإثارة إلى تعصّبٍ شديدٍ يصل في ذروة هيجاناته إلى القتل والتدمير ويتحوَّل إلى عدوانية جماعية، ولعلَّ أقرب صورة إلى الذاكرة ما نشهده في بعض مباريات كرة القدم، وهل ننسى نحن العرب ما جرى، منذ سنوات، بين مصر والجزائر، إذ كادت تنشب حربٌ بين البلدين الشقيقين، وربَّما لم يمنع ذلك سوى البعد الجغرافي! والمذهل أن الحماسَ الغوغائيّ امتدَّ ليشمل فنانين ومثقفين وإعلاميين وسياسيين!
كما حدثت حوادث شغب كثيرة في أوروبا على خلفية الحماس لكرة القدم، ذهب فيها ضحايا! وهذا يؤكد أن انفعالات البشر الأولية متقاربة ومتشابهة، كما يؤكد وجهة نظر فرويد، ومن يذهب مذهبه في التشاؤم من الوعي البشري ومن السلوك الطفولي الجمعي، الذي يذهب أحياناً حد الجنون، ويبدو فيه البشر في حالة سكر جماعية معجبين بالجنون الذي يظهرونه!
تذهب وجهة نظر فرويد إلى أن وعي البشر على الرغم من التَّقدُّم التّقنيّ، لم يتطوَّر عن وعي الإنسان البدائي، وقد يكون الإنسان القديم أكثر وعياً، ومسار الوعي الإنساني ارتكاسيٌّ وليس تصاعدياً أو تقدمياً كما نتوهَّم! وما يقوِّي هذا الاعتقاد هو أن الإنسان لايزال حتى الآن يرتكب حماقاتٍ كارثية وحروباً مدمّرة مبنية على أوهام أو غرائز أو أساطير أو خرافات، لا تقلُّ تفاهة عن أسباب حرب طروادة أو حرب داحس والغبراء!
هل قادنا الحديث عن الإعجاب إلى هذا التشاؤم، أو هي فوضى المشاعر؟!
إن الواقع الذي نعيشه، على المستوى المحلي والعالمي، لا يقود إلا إلى فوضى المشاعر وإلى التشاؤم! وما نريد أن نخلص إليه، أن الإعجاب فاعليّة إنسانيّة تُعبّر عن بدائية الوعي بالأشياء، وهو علاقة بين الذات والموضوع، وهو في حالاته الجمالية يكون فردياً، وقد يكون خطراً في الحالات الجمعية حين يستثمر في التعصُّب والتهييج والعدوانية، والتحمّس الشديد للدمار وللمدمرين.
التاريخ: االاثنين27-1-2020
رقم العدد : 984