الملحق الثقافي:منال محمد يوسف:
لاحَ لي بوجهه القمريّ، وألقي قميصه على الوجوه. إنه العائد والقادم إلينا، إنه العائد بوشاحه القمريّ، كأنه أناشيد الزمن المُتعب، وبعض الأراجيح التي تبكي موت طفولة الأزمان، كأنه المختبئ أو علائم الفرح المجتبى. رأيته فجراً آخر ينزف، كلماته القمريّة تبدو حزينة تُشبه ذاك المقاوم الذي أودع الوطن في عينيه رغم جراحه، وتُشبه أناشيد الحياة التي تنبتُ عشباً في واحات الضياء الأجمل.
لاحَ لي وجهه القمري، وكأنّه حكاية النّور التي فُقدت هناك، وكأنه ذاك الظل الجميل الذي نشتاقُ إليه، نشتاقُ أن يحطُّ بيده على جراحنا، يحطُّ بيده على كتف ذاك الأمل الذي كادَ أن يغيب عنا، نشتاقُ إليه حبيباً، كان يمنحنا دفء الحياة، يمنحنا رخامة الصوت النبيل، آه ما أجمله! لو يمتثل ذلك الاستحقاق الموعود، أو ربّما شمسه وأقماره العاشقة والناطقة نوراً ومحبةً. ولاحَ لي بعد غيابٍ، بعد سفرٍ وغربة دهرٍ.
كان يُشبه كلّ القصائد التي ينشدها الفقراء ويقيمون الصلاة من أجلها. كان يُشبه لوحة لشهيدٍ رحلَ مظلوماً وترك شوقه على صخرة الزمن، ترك تراتيل عشقه القدسية، ونحتَ حنينه المُشتاق، نحتَ الشيء الجميل الذي يجب أن يُختصر في كلماتٍ وجُمل فعليّة الجمال الأسمى.
لاحَ طيفه من بعيد وكنتُ أشتاقُ أقماره وبيارات الحياة لأجله. إنه يُشبه ذلك الطفل الذي يركضُ في حقول دهشتي الأولى والأخيرة. إنيّ أراه حقيقةً وليس خيالاً. إنني أراه قصيدة ما زلتُ أبحثُ عن أحرفها «أحرف التكوير أو التكوين ربّما «أبحثُ» ويبحثُ الجميع عن شاهقاته والشيء العظيم الذي نشتهي الوقوف فوق مربع تلاله. إنني أسمع الصوت والنداء اللفظي الجميل يقول: «إننا نشتاق ُ إليه، نشتاقُ أن نُقسّمُ بطوره وسنين عشقه». نشتاقُ إليه أسطورة خرافية الملامح ونشتاقُ نهره الوافد إلينا كرامة وعشقاً. نشتاقُ تباشير أيامه الجميلة.
لاحَ وجهه حكاية مُزركشة الأحزان والأفراح، مُزركشة الأفراح، حكاية ولدَ صوتها مع النطق الأول، حكاية نلمحها في عينيّ كلّ شهيد، نلمحها بين السطور، وبين فيافي تلك المقولة التي تقول: أنا قزحية الجمال الذي يعتزُّ به المرء، أنا من أُحتجزَ نور قمري وظليّ الأسمى، وتُركتُ كالقمح الذي يُخبّئ في عيون المساكين، وفي عيون المتعبين إذ رفَّ جفنُ التعب المُقدس، وكنتُ نطقاً لأبناء الأرض السمراء حتى ولو تمرّدت عليهم الأحزان، واغتصبت ضحكات أرواحهم المجروحة، وكانت تُغتصب علامات تبدو عندما تُخسف الأقمار، عندما يُخسفُ ظلّها.
هناك نبحثُ عنه بعد ليلٍ طويل، ننتظر معزوفة فجره الآتي، وبعد حربٍ ننتظر أن تُقال كلمته العُليا، و تُكبرُ المآذن وتقرعُ الأجراس لمجيئه أو مجيئكَ أيّها الغائب منذُ أن سرقوا أخضر السُنبلات من قمحنا، منذ أن حاولوا قتل بلاغة الحروف، منذُ أن سرقوا قداسة كلّ الضحكات التي كانت تزّين مدائن الشَّمس، منذ أن قالوا: إن الحروف يجب ألا تكون قمريّة ولا شمسيّة في وطني، و كذلك الجُمل يجب ألا تكون اسميّة ولا فعليّة.
منذ أن قتلوا اليمام ونحن نبحثُ عنكَ، نبحثُ عن قصيدة مطر تنزل لتروي ظمأ الأرض العُطشى، نبحثُ عن من يُقدس اسمكَ في تجليات وعلياء القداسة، ويُقدّسُ قميصه الذي يُلقى على وجوه المجروحين. أيّها النصر، أيّها القادم إلينا من مأقي المقهورين، ومن عيون أبناء المظلومين، من أرواحٍ تموت وتحيا على ذكراكَ أيّها الغائب الحاضر فينا والقادم إلينا رغم عصف الأزمان.
التاريخ: الثلاثاء25-2-2020
رقم العدد : 988