الفلسفة والعولمة كيف أراد كانط أن يوحّد العالم؟

 

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:

موضوعات مثل العولمة، الديمقراطية، الهجرة هي دائماً ما تثير النقاشات الساخنة، العلمية وغير العلمية. جميع تلك المواضيع لم تكن جديدة. الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط (1724-1804) وبطريقته الإبداعية تطرّق إلى جميع هذه المواضيع السياسية الهامة وإلى غيرها.
في العقود الأخيرة نالت كتابات كانط السياسية التقدير العالي من جانب الفلاسفة السياسيين في الدول الناطقة بالإنجليزية. هذا التقدير بلغ ذروته لدى العالم جون رولس في كتابه نظرية العدالة (1971)، وكتاب قانون الناس (1993).
تطور الإنسانية
في عام 1784، كتب كانط عبارته الشهيرة «من الإنسانية العوجاء، لم يُصنع أبداً أي شيء مستقيم». هو مع ذلك، اعتقد أن الطبيعة غير التامة للإنسانية يمكن تحسينها من خلال المؤسسات مثل الحكومة الجمهورية (في التعبير الحديث الديمقراطية)، والقوانين الدولية والمعاهدات.
إذا كان الناس حقاً قادرين على التحسين الاجتماعي والسياسي، عندئذ فإن كانط يعتقد أن المحرك السيكولوجي لذلك التحسّن سيكون ما يسميه «التواصل اللاجتماعي» unsocial sociability». هو يرى أن الإنسان يواجه توتراً أساسياً بين رغبته في أن يعيش ضمن جماعة من أناس آخرين ورغبته القوية ليُترك وحيداً. هذا التوتر يقود من بين أشياء أخرى إلى تنافس حاد بين الأفراد على الرقي والأشياء المادية. غير أن هذا الصراع الأساسي والعنيف أحياناً يقود أيضاً إلى الكشف عن غايات الإنسان وأهدافة (التيلوس). هدف الإنسانية، طبقاً لكانط، لا يمكن بلوغه لدى شخص واحد، وإنما فقط لدى البشرية ككل. وهكذا فإنه من خلال صراع التواصل اللاجتماعي فإن إنسانية الكائن البشري تتطور بمرور الزمن. (هذه الفكرة تكررت بوضوح في النظريات السياسية لهيجل أولاً ثم كارل ماركس لاحقاً).
كيف ينظر كانط للهدف النهائي للبشرية؟ إنه إنجاز العقل أو المعقولية، أولاً ضمن الفرد نفسه ثم مع الأفراد الآخرين في جماعة منظّمة عقلانياً أو دولة، وأخيراً بين مختلف الجماعات أو الدول. الآن بالنسبة إلى كانط، الفرد الناضج هو منْ لا يجعل عقله مأموراً من سلطات خارج ذاته، سواء كانت عقائد دينية أو عادات أو سلطات سياسية. بدلاً من ذلك، فإن عقل الإنسان يجب أن يتحرر إلى حدوده القصوى، ثم يوضع لخدمة الإنسان كإنسان والذي في النهاية يعني زيادة في الرفاهية العامة والخير العام لكل الإنسانية. وفي الموقف النهائي، سوف تحرر الإنسانية ذاتها عبر فترات تاريخية طويلة من التجربة والخطأ ومزيد من الأسى، وسوف تحقق توازن الحكمة في الشؤون الإنسانية على المستويين الضيق والواسع الحجم. وفي النهاية، فإن السلام العالمي والتجارة الناعمة سيسودان كحالة نهائية.
الشيء الحاسم في هذه المحصلة هو بناء الإنسانية للدول الجماهيرية (الديمقراطية) والتي هي قادرة على تنظيم نفسها مجتمعة على أساس عالمي، مفضلة أن تقودها «قوة رائدة» كبيرة. هذا يأتي كنتيجة للتطور العقلاني للإنسانية. الدول ذات البناء العقلاني والتي تخدم الأهداف العقلانية للأغلبية (بما في ذلك الحياة، الحرية، والسعي نحو الملكية) لا ترى أي فائدة غريزية أو عقلانية لتحطيم هذه الأهداف الخيرة المشتركة التي تسعى إليها دول أخرى منظّمة عقلانياً بنفس المقدار. المنطق هنا واضح: الناس لا يرغبون وبمعرفتهم تحطيم أنفسهم، وبهذا سيلجؤون إن أمكن إلى التحكيم أو عمل المعاهدات والطرق السلمية الأخرى لحل الصراعات إذا كانوا قادرين على بناء هياكل وطنية أو عالمية تسمح لهم بالقيام بهذا.
وكما لوحظ مراراً خاصة من جانب ستيفن بنكر في (التنوير الآن، 2018) أن كانط كان أول منْ طرح فكرة أن الديمقراطيات لا تقاتل بعضها. وهي الفكرة التي دفعت توماس فريدمان ليعرض فرضيته المعروفة بـ «Golden Arches»: والتي تعني أن بلدين فيهما فرعان لمطعم مكدولاند سوف لن يذهبا إلى الحرب. مع ذلك فإن فرضية «التجارة الناعمة» تجلب معها تلطيفاً للعلاقات الدولية وأن الالتزام بالمصالح السياسية كان الفكرة المشتركة حتى في القرن السابع عشر (انظر مثلاً كتاب Jacques Savary، التاجر التام، 1675). غير أن هذه الفكرة جرى تحدّيها من جانب المعلقين الذين أشاروا إلى أن المستوى العالي للتجارة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم يمنعا حدوث كوارث الحرب العالمية الأولى.
من الواضح أن كانط حدد نوعاً من العولمة ضمن التوتر السيكولوجي للإنسان نفسه. الإنسان يصارع ليشبع ذاته الداخلية التي لا تميل للارتباط مع آخرين، ولكنه مع ذلك يدرك أنه من دون الآخرين لا يمكنه تماماً إشباع هدفه أو تحقيق السبب النهائي له في الوجود. مهمته هي أن يجد طرقاً عقلانية لتنظيم التعاون مع الآخرين على المستويين المحلي والعالمي. إن العامل الأساسي هو الانتشار العالمي للديمقراطية. هذا يسمح ببناء فعّال ومستقر لضمان عالمي للأمن والازدهار. وهكذا يشتق كانط الفكرة أو ربما النبوءة بالسلام النهائي الدائم»perpetual peace».
الحق في الضيافة The Right To Hospitality
الافتراض المسبق للسلام الدائم ارتبط بفكرة أخرى لكانط وهي «الحق العالمي بالضيافة». هذا المفهوم العالمي يرتكز على فكرة أن الكائن البشري يمتلك على الأقل حقاً ضعيفاً ليسكن أي جزء من العالم، وبهذا، يجب أن تُقدّم له فرصة المساعدة أو على الأقل عدم الأذى أثناء إقامته المؤقتة في البلدان الأخرى.
إن حق الأفراد في الانتقال إلى أي مكان يختارونه هو، من حيث المبدأ، نتيجة للحق العقلاني بحياة أفضل، وبهذا فهو يمكن أن يُقيّد فقط من حيث المبدأ وبنفس المقدار بحق عقلاني آخر وهو الحاجة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والسياسي والثقافي للبلد المرغوب. من غير المدهش، أن هناك نقاشات سياسية ساخنة حول هذين الحقين العقلانيين، تبرز في بلدان قد تكون أو لا تكون ديمقراطية بالكامل.
الفهم الكانطي للكوزموبليتية العالمية والحق العالمي في الضيافة اجتمعا في رؤيته لانتشار الديمقراطية وبناء «عصبة الامم». كلما ازداد انتشار الأفكار الديمقراطية والعالمية والحقوق حول العالم، كلما انفتحت الأبواب بشكل أوسع أمام المهاجرين سواء كانوا أفراداً أو جماعات، والذي بدوره يقوّي العالمية وانتشار الأفكار الجديدة. وهكذا. يكون كانط ربما وضع ومن دون قصد الأرضية لفكرة أن الديمقراطية قد تقود إلى مستويات كبيرة من التكامل العالمي المرتكز على التوسع المستمر للعالمية cosmopolitanism والحقوق المتصلة بالضيافة. لو أصبح كل مكان في الأرض منظّماً تنظيماً عقلانياً كمكان ديمقراطي، ما الذي يمنع الفرد العقلاني من أن يضع نفسه ضمن المكان المختار؟ أو هل إن مستقبل الحركة العالمية للناس هو شيء آخر؟ مثلاً، من المتخيل، أنه إذا أصبح العالم متجانساً سياسياً واقتصادياً (كما تنبأ فوكاياما بذلك)، فإن ذلك سيقلّل الحافز لدى الناس في التدفق نحو الحدود. لماذا يحتاج الفرد إلى الهجرة إذا كان النظام السياسي والاقتصادي لبلده هو مشابه بدرجة ما لكل بلد آخر؟ لذا، من خلال عملية الدمقرطة الكبيرة فإن العالم سيصل مرحلة من التطور السياسي تقل معها الحاجة إلى الهجرة الاقتصادية والسياسية. هذا في النهاية سيترك فقط الأسباب غير الملحّة لمغادرة المرء بلده الأصلي، كأن تكون فقط الأسباب الجمالية كتفضيل مشهد معين أو ثقافة معينة على سبيل المثال.
نحو تقارب أكبر من خلال الديمقراطية
قد يقول قائل أن انتشار الدمقرطة يغذي العولمة. ولذلك من غير المدهش أن الخوف من العولمة يعبّر عن نفسه في الحركات السياسية غير الليبرالية والمضادة للديمقراطية. ولكن يجب ملاحظة أن هذا سيكون رد فعل سياسي مؤقت يستمر فقط عندما تنتشر عملية الدمقرطة إلى أماكن ذات حاجة أكبر مثل الصحراء الأفريقية.
يمكننا القول إن الديمقراطيات الغربية هي في هذه اللحظة تبين نفسها منسجمة مع الأنثربولوجيا الكانطية، هي ترغب أن تبقى وحيدة في عالم يريد الالتحاق بها. نحن نستطيع رؤية أن العولمة هي أيضاً الإنجاز الأكبر للمبدأ الكانطي في توسيع إمكانات الهجرة الفردية. العالم الأقرب يعني أنني أستطيع أن أكون أقرب إليك، ليس كغريب غامض وإنما كصديق اثني محتمل وربما محب. العولمة تعني أن إمكانية الألفة مع الآخر تزداد دراماتيكياً. هذه الحقيقة تجعل الكثير من الناس غير مرتاحين. إن قوى رد الفعل لا يمكنها في النهاية الفوز ما لم ترغب برفض عملية الدمقرطة، طالما العولمة هي نتيجة لتلك العملية. من دون دمقرطة، سوف لن يعود هناك وجود للعولمة أو أنها ستصبح غير مستقرة وبدرجة من الخطورة مثلما كانت في القرن التاسع عشر عندما ساد الفهم الخاطئ للتجارة باعتبارها كافية للسلام العالمي. وكما ذكر نورمان إنجل مرة، أن ذلك كان حقاً «الوهم الكبير».
في الخلاصة يمكن القول إن الدمقرطة وليس انتشار «التجارة الناعمة» هي منْ يوفر مستقبل آمن للعولمة السلمية إلى جانب التسوية العامة لحركة الناس مع حقوق عالمية أكبر، وانحلال تدريجي ضروري للأسباب التي تدفعهم إلى الهجرة.

التاريخ: الثلاثاء10-3-2020

رقم العدد : 990

آخر الأخبار
"صندوق مساعدات سوريا" يخصص 500 ألف دولار دعماً طارئاً لإخماد حرائق ريف اللاذقية تعزيز الاستقرار الأمني بدرعا والتواصل مع المجتمع المحلي دمشق وباكو تعلنان اتفاقاً جديداً لتوريد الغاز الطبيعي إلى سوريا مبادرات إغاثية من درعا للمتضررين من حرائق غابات الساحل أردوغان يلوّح بمرحلة جديدة في العلاقة مع دمشق.. نهاية الإرهاب تفتح أبواب الاستقرار عبر مطار حلب.. طائرات ومروحيات ومعدات ثقيلة من قطر لإخماد حرائق اللاذقية عامر ديب لـ"الثورة": تعديلات قانون الاستثمار محطة مفصلية في مسار الاقتصاد   130 فرصة عمل و470 تدريباً لذوي الإعاقة في ملتقى فرص العمل بدمشق مساعدات إغاثية تصل إلى 1317 عائلة متضررة في ريف اللاذقية" عطل طارئ يقطع الكهرباء عن درعا تمويل طارئ للدفاع المدني السوري لمواجهة حرائق الغابات بريف اللاذقية إغلاق مؤقت لمعبر كسب الحدودي بسبب الحرائق في ريف اللاذقية محافظ حلب يتابع انطلاق امتحانات الثانوية كبار في السن يتقدمون لامتحانات الثانوية العامة بدرعا 20482 متقدماً في اللاذقية لامتحانات الثانوية العامة والشرعيّة ارتفاع الكشفيات الطبية في درعا يدفع المرضى لحلول بديلة تسويق 29 ألف طن قمح في درعا في حضرة الغياب.. نضال سيجري العفوية المدهشة والفن الصادق إزالة أكشاك بمحيط حديقة الجاحظ في المالكي بدمشق 15 ألف طالب وطالبة في امتحانات الثانوية العامة بدرعا